مع اتجاه المصريين اليوم للتصويت على التعديلات الدستورية التي وضعتها لجنة الخمسين، يسود التشاؤم مشاعر غالبية المصريين بمختلف طبقاتهم وطوائفهم وانتماءاتهم. البلاد تمر بمرحلة انتقالية دقيقة تشهد تحولات سياسية كبرى، ومواجهة عسيرة مع الكساد الاقتصادي، فضلاً عن حرب شرسة مع الإرهاب الذي تمارسه جماعة الإخوان المسلمين وشركائها. مع كل ما يحدث لا يدري أحد بالضبط إلى أين تتجه مصر. لا أحد يعرف على وجه اليقين متى ستقف مصر من جديد على قدميها. لا أحد يستطيع التكهن إن كانت مصر ستسلك المسار الديمقراطي، أم أنها ستعود إلى طريق حكم الفرد، أم أنها ستبقى على ارتباطها بحكم العسكر المتمدينيين، أم أنها ستختطف مرة أخرى عن طريق انقلاب أو تمرد أو ثورة دينية مضادة. لا أحد يرى الطريق لأن الأمور تبدو معقدة وضبابية وغير قادرة على البوح بما يخبئه المستقبل لمصر وشعبها.

يتحمل الإخوان مسئولية حالة التشاؤم التي تسود الشارع المصري. فالإخوان هم من سرقوا أحلام المصريين بالحرية، تلك الأحلام التي ولدت بعد تنحي الرئيس الأسبق حسني مبارك قبل نحو ثلاث سنوات. والإخوان هم من أرادوا تحويل مصر إلى وكر من أوكار تنظيمهم السري المشبوه فسعوا حثيثاً لتغيير وجه مصر الحضاري، ووضعوا دستوراً يمكنهم من السيطرة على مفاصل البلاد. والإخوان أيضاً هم من أساءوا إدارة شئون البلاد الاقتصادية حتى أوشكت مصر على الإفلاس وأوشك المصريون على الوصول إلى حافة المجاعة. والإخوان كذلك هم المسؤولون عن غياب الأمن والطمأنينة لدى المصريين اليوم، فهم من يديرون ويخوضون معركة الإرهاب القذرة ضد مصر والمصريين، وهم من يقتلون ويروّعون ويخربون.

ولعل ما يعمق حالة التشاؤم هو الانقسام الذي حدث في صفوف المصريين في الفترة التي تلت الثلاثين من يونيو بسبب طريقة تعاطي النظام مع تنظيم الإخوان، وكذا طريقة فض اعتصام رابعة، إضافة إلى بعض بنود الدستور المثيرة للجدل. كان الأمل أن توطد ثورة الثلاثين من يونيو من علاقات المصريين، وأن تعمق الروابط بين القوى السياسية والاجتماعية المختلفة. لكن القليل من الاختلافات السياسية والكثير من المصالح كانا كافيان بنسف مشاعر الوحدة التي ألفتها الثورة الرائعة التي قام بها المصريون ضد نظام الإخوان البائد. كانت المصالح وراء اختيار قوى سياسية، كان يعوّل عليها كثيراً، الانشقاق عن الصف الوطني والالتحاق بصفوف التنظيم الإخواني الذي مزق مصر وخانها وباع عرضها وكرامتها وشرفها لتحقيق اهدافه الدنيئة في الوصول إلى السلطة ثم البقاء على قمتها.

خطورة الانقسام الوطني في هذه المرحلة تتمثل في إعطاء فلول الإخوان الفرصة في التعلق بوهم العودة إلى السلطة. التنظيم الإخواني يسعى بكل جهده لتشكيك المصريين بنتائج ثورة الثلاثين من يوينو عبر العمل على تعميق الانقسامات في صفوف القوى السياسية، وعبر اللجوء إلى الإرهاب المسلح ضد الدولة ومصالحها. ومن المؤسف أن يقع الكثيرون من المصريين وبخاصة ممن يطلق عليهم النخبة السياسية والثوار في فخ الإخوان مرة أخرى، بعد أن كانوا وقعوا فيها مرة أولى في تظاهرات الخامس والعشرين من يناير قبل ثلاث سنوات. في المرة الأولى سلّمت هذه النخبة بثوارها الأشاوس، بسذاجة منقطعة النظير، مصر إلى الإخوان. في المرة الثانية يسعى اليوم جزء من هذه النخبة للقيام بدور المحلل في إعادة تسليم مصر إلى الإخوان من جديد.

وسط كل هذا يجيء اليوم التصويت على التعديلات الدستورية التي أقرتها لجنة الخمسين المعينة من قبل النظام المدني الانتقالي الذي تشكل بعد سقوط نظام الإخوان. ليس هناك شك في أن التعديلات الدستورية جاءت محبطة للكثيرين ممن حلموا برومانسية مفرطة بمصر مدنية حرة وحديثة. ولكن النظر إلى التعديلات الدستورية ببعض العقلانية والموضوعية قد يبريء ساحة اللجنة وأعضائها على اعتبار أنه لم يكن بالإمكان أفضل مما كان. سعي النظام الحالي للوصول إلى توافق مجتمعي على التعديلات ونجح في الحصول عليه، وإن كان بثمن باهظ. بدت التنازلات التي قدمتها لجنة الخمسين لطرف أو أخر ضرورية للوصول إلى التوافق المنشود. ولعلي لا أكون مخطئاً إذا أكدت على أنه يبدو أن المسئولين بالنظام الحالي لم يهتموا كثيراً بماهية التعديلات بقدر اهتمامهم بوحدة الصف في مواجه جماعة الإخوان الخارجة عن الصف الوطني والخارجة أيضاً عن القانون. قد يكون منهج اللجنة هذا خطأ استراتيجياً، ولكنه في الوقت ذاته نجاح تكتيكي مشروع.

وإذا كانت لجنة الخمسين قدمت الحرية ومدنية الدولة قرباناً على مذبح التوافق، فتصويت المصريين اليوم له أهمية قصوى للأسباب الخمسة الأتية:

أولاً: هو تأكيد على وحدة الصف الوطني في مواجهة الخارجين عنه من إخوان ومن ساروا في فلكهم.

ثانياً: سيظهر الحجم الحقيقي لمؤيدي ثورة الثلاثين من يونيو والحجم الحقيقي لشراذم الإخوان الذين يروّعون المصريين بإرهابهم المقيت.

ثالثاً: سيؤكد على شرعية النظام القائم على ثورة الثلاثين من يونيو، وسيسحب عن تنظيم الإخوان ونظامه الذي حكم مصر قبل الثورة كل الأغطية الشريعة المزعومة.

رابعاً: ليس هناك شك في أن التصويت المكثف على الدستور سيخرس الأصوات الناعقة التي تخرج علينا من أنقرة والدوحة والتي تدعي اغتصاب السلطة من الإخوان.

خامساً: ترتيب الأولويات من أهم مباديء السياسة الحكيمة، والأولوية اليوم للاستقرار وحصار تنظيم الإخوان الإرهابي، والتصويت على التعديلات الدستورية هو الخطوة الأولى على هذا المسار.

قد يكون التشاؤم مسيطراً اليوم على مشاعر المصريين بسبب ما فعله ويفعله الإخوان، ولكن يجب على المصريين التشبث بخيط الأمل الذي نسجته ثورة الثلاثين من يونيو والذي ينتظر يزيده تصويت اليوم قوة وصلابة. نعم قد تكون التعديلات الدستورية محبطة لأن الغرض منها لم يكن التأسيس لدولة دستورية مدنية تقوم على الحرية والحداثة، بقدر ما كان الحصول على التوافق المجتمعي بهدف عزل الإخوان. رغم هذا يبقى التصويت اليوم مهماً وضرورياً لوضع مصر على بداية الطريق الصحيح وهو طريق وأد فتنة الإخوان إلى الأبد. إنه العسل المر. لم أكن أتمنى أن يصوت المصريون على دستور ينتقص من مدنية وحداثة وحرية دولتهم، لكن ما باليد حيلة إذ عليهم التنازل والقبول بالتوافق الدستوري حتى ينهزم أرهاب الإخوان. وعلى من يعترضون على بعض التعديلات الدستورية إدراك أن التصويت اليوم ليس تصويتاً على التعديلات بقدر ما هو تصويت على إنهاء حالة التشاؤم التي تسبب ويتسبب بها الإخوان. إنه تصويت على التفاؤل بغد أفضل لا وجود للإخوان الإرهابيين فيه.

[email protected]