بعد تسع سنوات من المتابعة والتحقيق بدأ قبل أيام النظر في الجريمة الإرهابية الكبرى التي هزّت لبنان ومنطقة الشرق الاوسط بأكملها أمام المحكمة الخاصة بلبنان للنظر في قضية اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري والمرافقين له، بالإضافة إلى العمليات الإرهابية الأخرى التي نفذّت في لبنان خلال العام 2005 وما بعده.

لست هنا بصدد الحديث عن العملية الإرهابية وتداعياتها السياسية، كما إنني لست معنياً بشرح الأبعاد الأمنية والتقنيّة لتلك العملية الرهيبة، ولا أود الدخول في تفاصيل مجريات هذه المحكمة وتركيبها ونظامها الأساسي إلخ... لأن ذلك كله منشور في مختلف الصحف ووسائل الإعلام، كما على الموقع الخاص بالمحكمة على الإنترنت.

لكنني أود التطرق إلى جانب خاص من هذه القضية أرى أنه تم إغفاله في تغطيات الحدث والتقارير الواردة عنه، وهو ما يُعرف في المصطلح القضائي بسلسلة القيادة. وهدفي من وراء ذلك الردّ على سؤال في منتهى الأهمية وهو: من هم المتورطون في ارتكاب هذه الجريمة؟ وبمعنى أدق من هم كل أطراف الجريمة الظاهرين والمستترين، بدءا من صاحب القرار وليس انتهاء بمجموعة المخططين والمنفذين على الأرض؟

المعروف في الجرائم الفردية كالسرقة او حتى القتل أو ما شابههما أن دافع العمل الإجرامي أو منفذه لايتجاوز شخصاً واحداً أو شخصين، أحدهما ينّفذ العملية والآخر يدبّرها أو يأمر بها أو حتى يمهّد لها. وإذا كانت الجريمة بطبيعتها مركّبة أوجماعية، بمعنى أنه شارك فيها عدة أشخاص، كالنّزاع العامّ مثلاً، فإن دور الأشخاص المشاركين فيها متشابه بين بعضهم البعض.

غيرأن هناك بعض الجرائم التي تعرف بالكبرى كالجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية للجنس أو العرق، وجرائم حرب ونظيراتها. هذه الجرائم لاتنحصر الأطراف المتورطة فيها أيا كان وضعهم أو عددهم على المشاركين مباشرة في ارتكاب الجريمة، بل يتعدى ذلك عادة فيشمل الذين ينفذون العملية الإجرامية على الأرض ومن يأمرهم في سلّم المراتب. وصولا إلى من يقرّر ارتكاب هذا الجرم أو ذاك، ويُعرّف برأس الخيط أو الرأس المدبّر فيما يُسمى بسلسلة القيادة.

هذه الجرائم هي التي تهمّ المجتمع الدولي بشكل خاص لأنها تهدّد الأمن والسلام العالميين. وقد أخذت الأمم المتحدة تدابير خاصة من أجل الحؤول دون إفلات مرتكبي مثل هذه الجرائم من الملاحقة والعقاب. وفي هذا السياق جاء تشكيل المحكمة الجنائية الدولية لتحقيق هذا الهدف. مثلما جاءت مصادقة مجلس الأمن الدولي على القرار الخاص بتأسيس المحكمة الخاصة بلبنان بهدف ملاحقة ومعاقبة مرتكبي الجريمة الإرهابية التي وقعت فيه..

وأمثلة هذه الجرائم عديدة، كالمجازر التي وقعت في روندا عام 1994، وجرائم التطهير العرقي او المجزرة التي ارتكبت في سربرينتسا عام 1995، اومجازر كامبوديا... وصولا إلى المجرزة الكبرى التي ارتُكبت بحق السجناء السياسيين في إيران عام 1988، وشملت إعدام ما يقارب ثلاثين ألفا من مجاهدي خلق. ومع أنها تأتي في هذا الإطار وأكثر إلا أنه لم يجر حتى الآن تشكيل محكمة للنظر فيها!

في هذه الجرائم هناك سلسلة من الاشخاص المتورطين في إرتكابها، إذ لا يمكن أن يرتكبها شخص واحد وبمبادرة فردية منه، وهي على الأغلب تتسِم بطابع سياسي ويجري ارتكابها من منطلق سياسي وبقرار سياسي أيضا.

علي سبيل المثال، بعد ارتكاب جرائم في مخيم أشرف ضد مجاهدي خلق والاشخاص المحميين بموجب معاهدة جنيف الرابعة، أقرّت المحكمة الإسبانية بولايتها للنظر في هذه الجرائم، نظرا لأن جرائم القتل كانت على مستوى جماعي واسع يطال العشرات بالإضافة إلى جرح المئات و... وفي تشخيص فعل المتورطين في ذلك تم وصفهم بمرتكبي جريمة ضد الإنسانية، وفق النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والجريمة ضد المجتمع الدولي أيضاً. وبعد التحقيق والتثبت أصدرت المحكمة أوامرها بملاحقة جميع الضباط الذين أطلقوا النيران، وملاحقة قادتهم العسكريين وكذلك المشرف والمسؤول السياسي والأمني المدعو فالح الفياض على سبيل المثال الذي يعمل في إطار مكتب نوري المالكي. وتم التأشير إلى أن سلسلة القيادة تنتهي بشخص نوري المالكي ذاته بصفته القائد العام للقوات المسلحة في العراق. وهكذا دخلت كل العناصر في القفص الاتهامي باعتبارها جزءا في سلسلة القيادة.

وهنا يجب توجيه السؤال: في محكمة لبنان الخاصة ومحاكمة العمليات الإرهابية التي نفّذت في لبنان وبشكل خاص في قضية اغتيال المرحوم رفيق الحريري كيف يمكن التعريف بسلسلة القيادة؟ بعبارة أخرى من هم الذين يشكلون هذه السلسلة؟

من الواضح أن الإدعاء وجّه الاتهام إلى أعضاء من حزب الله اللبناني وهؤلاء الأشخاص الخمسة معروفون بالإسم وإنتماؤهم بحزب الله لا شك فيه، ولم يبق إلا أن يُثبت القضاء تورطهم وتبتّ المحكمة بإدانة عملية تجريمهم.

لكن، هل يمكن الإكتفاء هنا بالقول أو حتى التصوّر أن هؤلاء الخمسة وحدهم من أعضاء حزب الله هم الذين اتخذوا قرار اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق بكل ما يحمله هذا القرار من أخطار وتبعات على البلد بشكل عام وعلى حزبهم بشكل خاص، دون أن ننسى النظام الداعم لهذا الحزب والموجّه الأساسي لسياسته وتحركاته؟

لاشكّ أن في عملية اغتيال رفيق الحريري التي غيّرت بعض الموازنات في المنطقة لا يمكن لأحد أن يتخذ قرارا بشأنها إلا إذا كان بعلم وإيحاء جهات عليا. في ضوء ما سلف يكون واضحا بالعقل والمعرفة بالواقع المعاش إلى أين تصل سلسلة القيادة في هذه العملية الإجرامية، وأين تكتمل أيضا.

الدليل: بعد تأسيس المحكمة الخاصة بلبنان، صرح خامنئي خلال استقباله أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة يوم 20 كانون الاول- ديسمبر 2010 بقوله نصاً: laquo;هذه المحكمة تتلقى أوامرها من جهات أخرى. وأي حكم ستصدره يعتبر لاغيا وباطلاraquo;. ثم أضاف: laquo;آمل أن تتصرف كل الأطراف النافذة التي لها كلمتها في لبنان بمنطق وحكمة، لكي لا تتحول هذه المسألة إلى مشكلةraquo;.

يبدو أن laquo;المسألةraquo; والمقصود بها محاكمة القتلة سائرة فعلا على سكّة تحوّلها إلى laquo;مشكلةraquo;!

ولمزيد من المعلومات وللتأكد من هذا التوجه المسبق ليوم المحاكمة، يمكن الإطلاع على تقرير مفصل عن هذا اللقاء على الموقع الرسمي لخامنئي.

أما آخر المواقف المعلنة حول الموضوع فقد ورد على لسان على لاريجاني رئيس المجلس الإيراني في تعليق غير مباشر على المحكمة بعد يوم من بداية أعمالها جاء فيه quot;إن الجمهورية الاسلامية الايرانية تُضحي بالغالي والنفيس من اجل حزب الله اللبنانيquot; و... quot; اذا اغلظ المسؤولون الغربيون الكلام بشأن حزب الله والمقاومة، فسيتلقون الصفعات بالتأكيدquot; / وكالة أنباء فارس17 يناير 2014.

فهل ثمة شكّ أين تبدأ وأين تنتهي سلسلة قيادة نظام الملالي وكل السائرين تحت إمرته؟

*رئيس لجنة القضاء في المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية