من المزعج أن يتملك إنسان شعور بأنه غير مقبول من المحيطين به أو أن يسيطر على مجموعة من المواطنين إحساس بنبذ المجتمع لها. يكون الإحساس بنبذ المجتمع مراً كالعلقم إذا رُفِضَ المرء ظلماً وإذا نبذت الجماعة لأسباب تعسفية. يعد التمييز الديني من أهم عوامل رفض المجتمعات للأفراد والجماعات في عالم اليوم. ومما لا شك فيه أن التمييز الديني يعد من أسوأ ما عرفت الإنسانية من أسباب التفرقة بين البشر منذ وطأت أقدامهم سطح الأرض. رد فعل على عدم القبول يختلف من فرد إلى أخر ومن مجموعة إلى أخرى، ويعتمد على شخصية وفكر ومنهج الفرد أو المجموعة. هناك من يسعى للاندماج والانخراط مع الأخرين بصورة أكثر فاعلية، وهناك من يتقوقع وينغلق على نفسه، وهناك أيضاً من ينقلب على المجتمع وينتقم منه.

ولعل المسيحيين في بلدان الشرق الأوسط ذات الأغلبية المسلمة هم أكثر الجماعات تعرضاً للتمييز الديني في عالم اليوم. تشير تقارير حقوق الإنسان إلى مآسي لا حصر لها يتعرض لها المؤمنون بالسيد المسيح في كل دول المنطقة من دون استثناء. المسيحيون في معظم البلدان يعاملون كسكان ولا يتمتعون بحقوق المواطنة، وهم محرومون من اعتلاء المناصب العليا، ويمنعون من بناء دور عبادتهم، ويهجرون قسراً من بيوتهم وقراهم ومدنهم، وتفرض عليهم الجزية في بعض الأحيان، ويتعرضون للضغوط والتنكيل والإساءة والإهانة، وهم يقتلون وتنهب أو تحرق ممتلكاتهم وكنائسهم. ورغم كل الألام يحب المسيحيون أوطانهم ويخلصون لها ويسعون لخيرها. محبة المسيحيين لا تقتصر بالطبع على اوطانهم، إذ أنهم ملزمون أيضاً، بحسب تعاليم السيد المسيح، بحب شركائهم في أوطانهم حتى ولو كانوا يضطهدونهم.

رغم كل ما يؤكد عليه المسيحيون بمختلف طوائفهم وانتماءاتهم وأوطانهم من محبة غير مشروطة وغير محدودة للمسلمين، فقد كثرت في الأونة الاخير الاحاديث عن دور سلبي للأقليات المسيحية في أوطانهم. طغى التطرف واللاعقلانية على الكثير من الأراء في هذا الشأن. ولعل الدور المهم الذي لعبه المسيحيون المصريون في ثورة يونيو والتي أفضت إلى عزل نظام الإخوان المسلمين والتأييد الذي يقدمه مسيحيو سوريا لنظام بشار الأسد كانا من أهم الأسباب التي أدت إلى تصاعد حدة الانتقادات والتهديدات التي توجه للمسيحيين. بلغ الأمر أن اتهم إسلاميون المسيحيين بالخيانة ومعاداة الإسلام وكراهية المسلمين وتأييد النظم الدكتاتورية. وقد عبّر تصريح، نشرته وكالة انباء الأسوشيتد برس، لأحد المتطرفين في مدينة دلجا بجنوب مصر، والتي تعد معقلاً للإسلاميين عن حال المسيحيين في أوطانهم، حيث ذكر أنه رداً على دور المسيحيين في ثورة يونيو فإنه لن يبقى في البلدة مسيحي واحد متى غادرت قوات الجيش التي تقوم بأعمال الحماية.

لسنا بحاجة هنا للتأكيد على أن المعتدلين الطيبين من المسلمين لا دخل لهم بألام ومتاعب المسيحيين في بلاد الشرق الأوسط. المتطرفون من المسلمين في البلدان الإسلامية هم من يضطهدون المسيحيين. بالطبع هناك أيضاً عدد من الحكومات والأنظمة السياسية التي تنافق الإسلاميين عبر تبني سياسات مشددة نحو المسيحيين. وهناك أيضأ أنظمة تطبق الشريعة الإسلامية فتعامل المسيحيين على أنهم أهل ذمة بلا حقوق، وتضعهم في منزلة أقل من نظرائهم المسلمين، وتقلل من شأنهم ومن وزنهم ومن أعدادهم، وتقيد حرياتهم الأنسانية الأساسية، وتحرمهم من ممارسة شعائرهم الدينية، وتمنعهم من اقتناء كتبهم الدينية، وتفرض عليهم أزياء معينة، وتحظر عليهم التسمي بأسماء ترمز للمسيحية، وتقمع طموحاتهم العملية والسياسية والاجتماعية، ولا تعاقب من يتعرض لهم أو ينهب ممتلكاتهم أو يقتلهم، وتشجع على نبذهم، وتحرِّض على كراهيتهم من فوق منابر المساجد وعلى شاشات الفضائيات الرسمية.

ويبقى المسيحيون رغم كل المتاعب على ولائهم لأوطانهم وعلى حبهم للمسلمين ومضطهديهم. لكن ثلاثة أسئلة تفرض نفسها هنا. الأول هم هل يمكن أن نلوم المسيحيين إذا ما تقوقعوا في مجتمعاتهم الصغيرة أو داخل كنائسهم طالما غابت العدالة وانتفت المساواة ومنعت الحريات؟ الثاني هو هل يمكن أن نلوم المسيحيين إذا ساهموا في مقاومة سلمية للتطرف الإسلامي؟ والثالث هو هل يمكن أن نحكم على المسيحيين بأنهم خونة إذا ما عملوا يداً بيد مع نظرائهم المسلمين على مساندة أنظمة سياسية تحرِّم التمييز على أساس الدين في أوطانهم؟

بالطبع لا يمكن لوم المسيحيين على تقوقعهم حين يشعرون بأنهم منبوذون. يؤكد التاريخ أن المسيحيين يتقوقعون حين لا يرحب بهم المجتمع الذي يعيشون فيه. التقوقع هنا إكراهي وليس اختيارياً، هم يلجأون إلى التقوقع فقط حين يغلق المجتمع أبوابه أمامهم. للتدليل على هذا دعونا ننظر حال المسيحيين في مصر وسوريا والعراق في العقود القليلة الماضية. عاش المسيحيون في البلدان الثلاثة أفضل أيام انفتاحهم في العصور الحديثة حين أُعطوا الفرصة وحين قبلتهم مجتمعاتهم أبان حكم عبد الناصر في مصر وصدام حسين في العراق والأسدين في سوريا. تغير الأمر تماماً حين جاء أنور السادات في مصر وبعد أن اعتلى النظام الهزلي الحالي سدة الحكم في العراق وعندما تهدد واهتز نظام الأسد الصغير في سوريا، حيث عاد المسيحيون من جديد إلى التقوقع ربما تجنباً للمزيد من المشاكل والصدامات وربما تخوفاً من النفوذ المتزايد للقوى المتطرفة في البلدان الثلاثة.

لا يمكن أيضاً لوم المسيحيين حين يقاومون الفكر المتطرف سلمياً. ولا يمكن كذلك لومهم أو اتهامهم بالخيانة إذا ساندوا أنظمة تحترم حقوق الإنسان. لا يعادي المسيحيون المسلمين حين يطالبون بحقوقهم غير منقوصة، ولا يشن المسيحيون الحرب على المسلمين حين يشاركون في التأسيس لدولة حديثة تحترم الإنسان وتساوي بين المواطنين وتعطي كل ذي حق حقه. ولذلك فالدور المهم الذي قام به المسيحيون المصريون في إسقاط نظام الإخوان السيء لم يكن إلا دوراً وطنياً بامتياز. لم يشترك المسيحيون في ثورة يونيو لإسقاط نظام يترأسه مسلم وتضم قيادته غالبية مسلمة. علينا أن نعي أن المسيحيين يعون البديل لنظام الإخوان مسلم أيضاً ولن يكون للمسيحيين فيه إلا أقل القليل كالعادة. لكن المسيحيين اشتركوا في إسقاط نظام دكتاتوري، فاسد، يتمسح بالدين، ولم يكن يعبأ إلا بالتحكم في مفاصل الدولة بغرض تحقيق أجندته غير الوطنية. بالمثل يمكن فهم مخاوف مسيحيي سوريا من وصول نظام مماثل لنظام الإخوان الذي فشل في حكم مصر. المسيحيون السوريون للأسف يجدون أنفسهم في موقف يجب عليهم فيه الاختيار بين السيء والأسوأ.

المسيحيون في كل بلدان المنطقة يُرْفَضْون ويُنْبَذْون في مجتمعاتهم، ولكنهم يقابلون الرفض بالمزيد من المحبة منفذين تعاليم السيد المسيح وكتابهم المقدس. المحبة هي الدواء الوحيد لألام الاضطهاد في العقيدة المسيحية. المسيحيون وطنيون ومسالمون. المسيحيون يلقون بهمومهم على مخلصهم وينأون بأنفسهم عن حمل السلاح للحصول على حقوقهم. المسيحيون يصادقون ويعاهدون بإخلاص من يقبلهم من المسلمين. وعلى من يتهم المسيحيين بالتطرف وخيانة الوطن أن يراجع بصدق كتب التاريخ التي تشهد على تعايش مشترك بذل فيه ومن اجله المسيحيون كل غال ونفيس حتى يستمر. ليس هناك شك في أن شركاء المسيحيين في أوطانهم من المسلمين المعتدلين تقع على عاتقهم مسئولية قبول المسيحيين. أؤمن بقوة أن هناك الكثيرين من المعتدلين الذين يفتحون أبوابهم أمام المسيحيين. نعم التطرف ينتشر كالنار في الهشيم هذه الأيام، لكن النواة مازالت موجودة وحية وصالحة للنمو.

مع محبتي لكل مسلم.

[email protected]