يذكرنا مؤتمر جنيف-2 بسيناريوهات مفاوضات الفلسطينيين والإسرائيليين ولا يوجد ضوء في آخر النفق، وبات وضاحا أن بشار لن يترك السلطة ولن توافق روسيا والصين وإيران على ذلك وستبذل روسيا كل ما بوسعها للمحافظة على نظام بشار الأسد. وليس من المبالغة القول أن نظام الأسد استمر بالصمود بفضل الدعم الروسي ولولاه لحسمت الأزمة السورية منذ عام. إذ يتميز الدور الروسي في دعم نظام بشار الأسد بالقوة والفاعلية إلى درجة مكنته من الصمود بشكل غير مسبوق أمام الثورة الشعبية الصامدة منذ ثلاثة أعوام. وكان أبرز ما فعلته بتاريخ 19 يوليو 2012 هو استخدام حق النقض الفيتو بصفتها دولة عظمى بشأن فرض عقوبات ضد سوريا وكانت تلك ثالث مرة تستخدم فيها هذا الحق خلال تسعة أشهر حماية للنظام السوري. وقد شكل هذا الاستخدام درع حماية لنظام الأسد ومكنه من الصمود وسحق المتمردين موقعا آلاف الضحايا من المدنيين. ولا يقتصر الموقف الروسي على استخدام حق الفيتو بل إنه امتنع عن المشاركة في أية ضغوط دولية لإجبار الأسد على اتخاذ إجراءات لإنهاء الأزمة السورية. وقد أوردت الأنباء قول لافروف وزير الخارجية الروسي quot;إن بشار الأسد يتمتع بشعبية هامة لذا فهو لن يرحلquot;. وتتضمن العقوبات التي اقترحها مجلس الأمن فرض منطقة حظر حول سوريا منعا لتدفق الأسلحة على نظام الأسد مما يعني مساعدة حقيقية للثوار وتمكينهم من الإطاحة بنظام الأسد.
وعليه، فإنه يمكن القول بأن الدور الروسي فعال غاية الفعالية في دعم نظام الأسد من خلال إحباط أي قرار دولي لإضعافه والامتناع عن المشاركة في أية جهود تبذل لإجبار الأسد على التنحي. ولكن هذا ليس جميع ما قامت به روسيا. فهي تزود النظام السوري بالأسلحة بشكل مستمر وعلى الرغم من تصريحات موسكو أن هذه الأسلحة دفاعية إلا أنه لا يمكن التأكد من طبيعة الأسلحة التي تصل سوريا. وإزاء هذا الوضع فإن روسيا والصين إلى جانبها ساهمتا إسهاما فعليا في استمرار الأزمة وحالتا دون حسمها مبكرا كما حدث في الدول العربية التي تمت الإطاحة بأنظمتها.
في تحليل صادر عن مركز كارنيجي بقلم ترنين، قدم الكاتب تصويرا للموقف في سوريا على أنه أصبح مأزقا يستحيل الخروج منه في ضوء التعنت الروسي والغربي وأصبح المدنيون فيه بين فكي الكماشة يموتون بالآلاف ويصابون ويشردون دون أن يلوح ضوء في آخر النفق المظلم. ورأى أن روسيا لا يمكن أن تتراجع عن موقفها لاعتبارات سياسية وأمنية واقتصادية وحتى دينية بالنظر إلى أنها تأكدت أن نظام الحكم البديل هو الحكم الإسلامي وهي تخشى على الأقلية المسيحية في هذه البلدان كما تخشى من التشدد الإسلامي أن يمتد إليها ويزيزع أمنها.
لكن ما يجري في سوريا هو صراع بين الغرب وروسيا على الهيمنة على المنطقة وليس صراعا على القيم. إنها حرب يخوضها العرب بالنيابة عن الشرق والغرب. لقد أشعلت هذه القوى الصراع الطائفي في سوريا فقام الغرب والدول الحليفة معه بتسليح المتمردين الذي يمثلون الغالبية السنية ومن خلفهم عناصر جهادية ليقاتلوا الأقلية العلوية. وليس للغرب ولا لروسيا مصلحة في الإسلام السني أو الشيعي إلا أن لهما مصلحة في الهيمنة على المنطقة كل من خلال حليفه الذي يدعمه على حساب الشعب والسيادة والأموال والبنية التحتية في سوريا. وقد حضرت جميع الاعتبارات على ساحة المعركة باستثناء الاعتبارات الأخلاقية فقد غابت غيابا كاملا.
وتنظر روسيا إلى ما بعد الإطاحة بحكم الأسد ورأت بأم عينها ما جرت في الثورات العربية السابقة التي أتت بالتيار الإسلامي إلى أنظمة الحكم في كل من ليبيا وتونس ومصر وجميعها أنظمة أتت بدعم أمريكي وهي تدرك أنه إذا خسرت سوريا فإن البديل هو نظام مشابه للأنظمة التي حلت محل الأنظمة السابقة. وهي تخشى أن يصل المد في الأنظمة الآيدولوجية إلى حدودها الجنوبية وبالتالي إليها. إن الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفيتي هي جمهوريات مسلمة وهناك احتمال أن تصل عدوى الثورة إليها وفي حالة قيام حكم إسلامي متشدد على أعتاب روسيا، فإنها لن تكون حليفتها وربما تسبب لها متاعب أمنية. ولا تزال ذاكرة روسيا قوية بشأن صربيا وجورجيا وأوكرانيا حيث أدى التدخل العسكري الغربي إلى نشوء أنظمة حكم مناوئة لروسيا وعلى الرغم من عدم اتخاذها موقفا مشابها في ليبيا فقد بنت الموقف الجديد بناء على نتيجة الثورة الليبية التي أتت بالإسلاميين إلى الحكم وهذا يعني أن روسيا تفقد حلفاءها بالتدريج، وإذا استمرت التداعيات واحدة تلو الأخرى فإن مسلمي وسط آسيا سيحذون حذو الدول التي نشأ فيها حكم إسلامي مما يعني احتمال هجرة غير المسلمين إلى روسيا مما سيخلق مزيدا من الاضطرابات وزعزعة الاستقرار لديها. ومن جانب آخر، فإن حرص روسيا على النظام الروسي نابع من وجود قاعدة عسكرية لها في طرطوس، وبعد أن فقدت تأثيرها في ليبيا بات يتعين عليها التمسك بهذه القاعدة التي تعول عليها لإقامة تعادل بين النفوذ العسكري الأمريكي وبينها. وتستخدم روسيا هذه القاعدة لتزويدالسفن الروسية العابرة للشرق الأوسط بالوقود. إلا أنها تحمل اهمية كبرى بعد فقدان روسيا الكثير من قواعدها العسكرية.
ومن ناحية أخرى فهناك مصلحة اقتصادية لروسيا في سوريا إذ تقدر الاستثمارات الروسية في سوريا بنحو 20 مليار دولار إذ توجد في سوريا أربع شركات روسية لاستخراج النفط كما أن سوريا مستورد دائم للأسلحة الروسية وقد تعلمت روسيا الدرس من فقدانها العميل المستورد الليبي إذ كان القذافي قد اشترى أسلحة بقيمة 2 مليار دولار لكن النظام الذي جاء بعده أبرم مع فرنسا اتفاقية دفاع قد تؤدي إلى شراء أسلحة فرنسية كمقاتلات جت وصاريخ مضادة للطائرت. فإذا أطيح بنظام بشار ستضيع من روسيا الكثير من عقود الشراء. حتى أن المحللين يرون أن روسيا لا تستطيع الآن التراجع عن دعم بشار بعد كل هذا البطش بشعبه لأن نظام الحكم الجديد لن يغفر لها دعم الأسد ولن يتعامل معها اقتصاديا. وفي دراسة قام بها مركز الجزيرة للدراسات أنه quot; تُشكِّل سوريا أحد أهم الشركاء العرب التجاريين لروسيا؛ إذ تشكِّل التجارة الروسية-السورية ما نسبته 20% من إجمالي التجارة العربية-الروسية، كما أنها تشهد تناميًا؛ إذ ارتفعت التجارة الروسية-السورية إلى 1.92 مليار دولار عام 2011 بزيادة تصل إلى 58% عن عام 2010. من ناحية أخرى، تصل الاستثمارات الروسية في سوريا إلى حوالي 20 مليار دولارquot; هذا على صعيد التجارة المدنية، أما بالنسبة للتجارة العسكرية فتضيف الدراسة quot; تُعد سوريا إحدى الدول المهمة كسوق للسلاح الروسي؛ إذ شكّل نصيب سوريا من تجارة روسيا العسكرية حوالي 7% عام 2010، والتي بلغت 700 مليون دولار، كما أن سوريا متعاقدة مع روسيا على صفقات عسكرية بقيمة أربعة مليارات دولار حتى عام 2013، منها 960 مليون دولار عام 2011، وحوالي 550 مليون دولار عام 2012 طبقًا لمركز تحليل الإستراتيجيات والتكنولوجيا في موسكو (كاست)، وهي تقريبًا نفس قيمة المبيعات العسكرية الروسية لسوريا خلال الفترة من 2006-2010؛ مما يجعل قيمة المبيعات العسكرية خلال الفترة من 2006-2013 حوالي ثمانية مليارات دولار.quot; وإذا أضفنا أن روسيا خسرت معظم عملائها التجاريين في المنطقة فإن تشبثها بسوريا يوجد ما يبرره من الناحية الاقتصادية ناهيك عن أن وجود قاعدة طرطوس البحرية كلفت روسيا شطب ديون مقدارها 9.8 مليار دولار في عام 2006. وهذه أرقام عالية تدفع روسيا إلى الإصرار على موقفها.
سهى الجندي