حين أثيرت مسألة الخلافة البابوية قبل أعوام، أعربت في عدة مناسبات عن إشفاقي على من يعتلي الكرسي البابوي خلفاً للبابا شنوده الثالث. لم يكن وراء إحساسي هذا أية عوامل دينية كإيمان البابا شنوده ومواهبه الروحية، إذ أعتقدت دائماً بأن العلاقة بين الإنسان وربه علاقة شخصية لا يحق لمخلوق أن يبدي رأيه فيها. بررت إشفاقي بأسباب أخرى تتعلق بالإمكانات الفردية الإستثنائية التي كان البابا شنوده يحظى بها. امتلك البابا شنوده شخصية كاريزمية جذابة وقدرات ذهنية بارعة قلما يجود بها الزمان. تمتع الرجل أيضاً بحضور طاغ وعقلية مرتبة وبلاغة لغوية فائقة ومشاعر حساسة وحواس يقظة وذكاء كان يلمع في عينيه فضلاً عن خفة ظل نادرة. ارتبط البابا شنوده بالعمل الوطني والعام (غير الكنسي) منذ شبابه ما أكسبه خبرة كبيرة ومعرفة دقيقة بكل قضايا وطنه، ولم يستطع البابا فك هذا الارتباط حتى بعد أن التحق بسلك الرهبنه. أعطت كل هذه الإمكانات البابا الراحل قبولاً عريضاً ممن تعامل معه أو رأه أو استمع له، وكان الموضوعيون يصنفون البابا شنوده على أنه فلتة من فلتات الزمان.


غير أن المواهب غير العادية التي تمتع بها البابا شنوده لم تكن من غير ثمن، إذ لعب الرجل دوراً موازياً لدوره الروحي في الحياة العامة والوطنية، وهو دور ربما لم يعتد البابوات السابقين له لعبه. إضافة إلى هذا فقد ساهمت الشخصيه القوية للبابا شنوده في حالات تصادم مع عدد من الشخصيات العامة والقبطية. كثيراً أيضاً ما صاحبت صلابة مواقفه في ما يتعلق برؤاه الدينية ردود أفعال سلبية من قبل من اختلفوا معه وعارضوه. وقد قوبلت قناعاته بشأن حقوق شعبه القبطي في كل الأوقات بهجمات شرسة من قبل من رفضوا أن يتمتع الأقباط بحقوقهم المدنية كاملة في وطنهم. كما لعبت شخصيته المتابعة للشئون العامة وغير الرافضة للأضواء والإعلام دوراً في اتهامه بالمزج بين الدين والسياسة وبلعب دور لا يتناسب مع مركزه الديني. لم يدفع البابا شنوده وحده ثمن مواهبه، فقد دفعت الكنيسة القبطية بكاملها ثمناً باهظاً أيضاً عندما تحول عداء البعض للبابا إلى عداء نحو الكنيسة.
كنت أرى أن الإمكانات الفردية البابا شنوده تمثل تحدياً كبيراً لخليفته، لكني كنت أيضاً أرى أن الانطباع الذي أوجده البابا شنوده بين المصريين عن شخصية البابا القبطي قد يمثل عبئاً ثقيلاً على البطريرك الذي يحل محله. كنت أعتقد أنه على البابا الخليفة أن يتخذ منهجاً مختلفاً تماماً عن البابا شنوده حتى يبتعد بنفسه عن مقارنات ليست منطقية وبعيدة عن الموضوعية، وحتى ينأى بالكنيسة عن مهاترات حُشِرَت فيها بسبب الوجود المكثف للبابا شنوده على الساحة العامة طوال فترة بابويته التي امتدت لأربعين عاماً. وبعد رحيل البابا شنوده سادت الأجواء القبطية مشاعر مختلطة بشأن البابا الجديد. لم يكن الكثيرون يتمنون أن يعتلي كرسي بابوية الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بطريركاً بمثل قدرات البابا شنوده. كان الكثيرون الأقباط يتمنون أن يمزج البطريرك الجديد بين شخصيتي البابا كيرلس السادس الذي الهاديء الذي عرف برجل الصلاة والبابا شنوده الرجل النشط والمثقف والموسوعي المعرفة.
وعندما اختارت القرعة الهيكلية، حسب الطقس الكنسي الأرثوذكسي، في أكتوبر 2012 الأنبا تواضروس لكرسي البابوية أعرب الأقباط عن تفاؤلهم بالبابا الجديد. لم يكن الأنبا تواضروس وجهاً جديدأ بالنسبة للأقباط، إذ كان الرجل معروفاً على نطاق واسع بسبب خدمته بين الشباب ومساعدته للأنبا باخوميوس في إدارة شئون إيبارشية البحيرة. يتميز البابا تواضروس الثاني بالهدوء والتواضع. ويُعْرَفُ برؤيتة الجديدة التي تقوم على إدارة جماعية، وليست فردية، للمؤسسة الكنيسة، واستعداد للتعاون مع المطارنة والأساقفة أعضاء المجمع المقدس، ورغبة في التفاهم والحوار مع الأخر سواء كان داخل الكنيسة أو خارجها. يعرف عنه أيضاً خبراته وقدراته في التواصل مع الشباب وإيمانه بدور الأجيال الجديدة في العمل الكنسي والوطني.


منذ اللحظة الأولى لتجليسه على الكرسي المرقسي وجد البابا تواضروس نفسه منذ اعتلى كرسي البابوية مطالباً بالظهورفي رداء البابا شنوده في الحياة العامة. وجد الرجل أنه مطالب بتمثيل الكنيسة في الاحتفالات الوطنية، وبالظهور إعلامياً في حوارات صحفية أو تلفزيونية، وأنه مطالب بإبداء أراء في أمور وطنية وسياسية كثيرة، وأنه مطالب بإلقاء كلمات في مناسبات غير روحية كالاحتفالات الوطنية وغيرها.
لست هنا في معرض المقارنة بين البابا تواضروس وسلفه البابا شنوده. الرجلان يختلفان جزئياً وكلياً والمقارنة بينهما غير موضوعية. كان يمكن للبابا تواضروسن يرفض الظهور في رداء البابا شنوده بأن يسن قواعد جديدة لظهور البابا إعلامياً وفي الحياة العامة. كان من الممكن أن يعود الرجل إلى الأسلوب الذي اتبعه البابا كيرلس السادس والذي اقتصر ظهور البابا فيه على مناسبات عامة محدودة للغاية. كان من الممكن أن يعين مسئولين يختصون بكافة أمور الحياة العامة بدلاً من توليه شخصياً مسئوليتها. لكن البابا تواضروس اختار، ربما بسبب الظروف الاستثنائية التي تمر بها مصر، أن يكمل في طريق البابا شنوده
من المؤكد أنه ليس ضرورياً أن يقوم البابا تواضروس بكل ما كان البابا شنوده يقوم به من أعمال عامة، وليس ضرورياً أن يمثل البابا الكنيسة في المناسبات أو أن يتحدث باسم الكنيسة في المؤتمرات وأمام وسائل الإعلام كما كان يفعل البابا شنوده. كان ارتباط البابا شنوده بالعمل العام والوطني طبيعياً لأنه اعتاد عليه منذ شبابه ولأنه لم يستطع الابتعاد عنه فيما بعد، لكن الأمر بالنسبة للبابا تواضروس يختلف تماماً. دعونا نكون صرحاء هنا. إذا كان البابا شنوده أبدي أراءه في قضايا سياسية فلم يكن هذا، في معظم الأوقات، واجباً عليه وإنما اختياراً. صحيح أن الدولة، وبخاصة في عصر السادات، حاولت إقحام وتوريط المؤسسات الدينية وبخاصة الأزهر والكنيسة في الأمور السياسية، لكن البابا شنوده لم يجد حرجاً في دخول المعتركين العام والوطني. كانت هذه رغبته الشخصية المدفوعة بإمكاناته الفردية.
ولكن ماذا يمكن أن يفعل البابا تواضروس اليوم؟ أرى أنه من المهم أن يعيد الرجل النظر في ظهوره بجلباب البابا شنوده. لقد اقترب البابا شنوده من الحياة العامة غير الكنسية كما لم يقترب أي بطريرك قبطي في العصور الحديثة، لكنه اكتوى بنارها وناله ونال الكنيسة معه الظلم بسببها. لم يقبل البابا شنوده، لأسباب خاصة به، بأن الشئون العامة ليست من اختصاص قائد المؤسسة الكنسية. ولعله من المهم اليوم أن يستفيد البابا تواضروس من تجربة البابا شنوده، ومن المهم أن يدرك أن ظهوره شخصياً أو أي من الأساقفة أو القساوسة في معترك الحياة العامة وبخاصة السياسية يؤثر على الكنيسة وعلى وسمعتها ومكانتها وهيبتها. ليس هناك شك أيضأ في أن أعاد البابا النظر في ظهوره في الحياة العامة فإنه سيطبق مبدأ مدنية الحياة العامة الذي نحلم به. قد يكون الحل الأمثل للكنيسة هو تفعيل دور المجلس المللي واختيار قادته لتمثيل الكنيسة في الأمور العامة والسياسية على أن يبقى البابا رأساً ورعاً ووقوراً للمؤسسة الكنسية لا يلوثه كذب ونفاق ورياء الحياة العامة.
ملحوظة: هناك الكثير من التصريحات السيئة والمسيئة للأقباط والمؤسسة الكنسية التي نقلت عن أساقفة وقساوسة في الأونة الاخيرة والتي لن يكون أخرها تصريح القس العاشق للفريق السيسي. ليت البابا تواضروس يبادر اليوم بتوجيه رجاله بأن التصريحات الصحفية من مسئوليات المتحدث الرسمي باسم البطريركية.