الإنسان الذي ينظر إلى تكامل الأحداث المحيطة به من خلال الزاوية الضيقة لا يمكن أن يصل إلى المطالب اليقينية التي تحقق السيادة العامة في الأرض إذا ما أخذت مقتضياتها ولوازمها عن طريق الشرعية ذات المنشأ الإلهي دون الركون إلى ما يطرأ على الاعتقاد الذي لا يتوافق مع الأصل الذي يبنى عليه التصور السليم الذي ينتقل بموجبه إلى فرض الأسس والنظريات التي لا تخرج عن طبيعة الواقع المعاش مع الحفاظ على استقلاليته في صنع القرارات التي تؤمن له الرؤية الصحيحة إذا كان يرغب في الابتعاد عن الأفكار الدخيلة والتوجه إلى المنهج التشريعي الذي يكون تابعاً للنظم التي يترتب عليه الأخذ بها، علماً أن هذه الرؤى لم تكن وليدة اليوم، وإنما كانت تراود الفلاسفة والعلماء منذ القدم، فهي لم تكن ضرباً من الخيال، بل كانت مبنية على تصورات حقيقية، وهذا ما جعل أتباع المنهج الحرفي لا يقيمون وزناً لتلك المفاهيم، حتى وصل الأمر إلى تعرض أحد الفلاسفة إلى أعتى أنواع الغضب من قبل العلماء الذين عاصروه وذلك بسبب اعتماده لهذه الفكرة.

وعند البحث في هذا الأمر نجد له جذوراً في سائر الكتب السماوية، وقد ذكر القرآن الكريم بعضاً من هذه الأمثلة، كما في قوله تعالى: (إرم ذات العماد***التي لم يخلق مثلها في البلاد) الفجر 7-8. فإن قيل: قصة إرم التي تطرق إليها القرآن الكريم ترمز إلى الحياة المادية لأولئك القوم، وهذا لا يتفق مع الطرح الذي يجب أن يكون عليه المجتمع المثالي؟ اقول: الأمر كذلك فإرم كانت مدينة عظيمة ذات قصور عالية كما ورد ذلك في الآيات التي بينت هذا المعنى، وكان أهلها أصحاب حضارة وهذا هو الفرق الذي نريد أن نبينه، إلا أن جحودهم بآيات الله تعالى أدى إلى سلب هذه الأفضلية التي كادت أن تتقارب مع ما ذهب إليه الفلاسفة في تصوراتهم عن المجتمع المثالي، ولهذا وصفهم الحق سبحانه بقوله: (وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد***وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عاداً كفروا ربهم ألا بعداً لعاد قوم هود) هود 59-60. ولا يختلف هذا الأمر مع أهل سبأ الذين أشار إليهم تعالى بقوله: (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور***فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل) سبأ 15-16.&

وبناءً على ما تقدم يمكن القول إن هذا الأمر المادي يمكن أن يكون مصداقاً للأمر المعنوي الذي يتفرع عليه، علماً أن الأمر الثاني لا تكتب له الاستقامة إلا إذا كانت الحياة المادية في أرفع حالاتها، مما يمهد الطريق إلى خلق مجتمع متكامل، وإن شئت فقل المجتمع الذي كان يراود أحلام الفلاسفة إن لم نقل آمالهم وتطلعاتهم. وهذا لا يتأتى إلا إذا انتشرت الفضيلة بين الناس، وكان مصدرها لا يجانب المنهج التشريعي الذي ذكره الله تعالى في قوله: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) الأعراف 96. وكذا قوله: (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون) البقرة 103. وقوله: (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون) المائدة 66. وبهذا نصل إلى التقاء هذه المصاديق مع المفهوم العام الذي بينه الله تعالى بقوله: (والأرض وضعها للأنام) الرحمن 10. وهذه القاعدة العظيمة لا يمكن تطبيقها في الأرض إلا إذا رفع الإنسان ملكيته الاعتبارية عنها مما يجعلها مستقرة لجميع المخلوقات وذلك لعموم معنى الأنام، وهذا الأمر لا يمكن تحقيقه إلا بالرجوع إلى القانون الإلهي الذي أشرنا إليه. فإن قيل: هل يمكن تطبيق هذا القانون في الأرض؟ أقول: نعم يمكن تطبيق القانون الإلهي في الأرض وذلك عند انتقاله من التشريع إلى التكوين مع الحفاظ على الالتزامات الأرضية وجعلها خالية من الآثام والخطايا، لأجل أن يقترب العالم من إقامة العدل والمساواة في الأرض. فإن قيل: يظهر من خلال متفرقات القرآن الكريم أن إبليس قد أخذ على عاتقه إغواء جميع الناس إلا المخلصين، فكيف يمكن الجمع؟ أقول: لمّا علم إبليس بتفضيل الله تعالى لآدم، أخذته العزة بالإثم، وهذا ما بينه تعالى على لسانه بقوله: (قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً) الإسراء 62. وهناك آيات كثيرة بهذا المعنى مع اختلاف في اللفظ، وقد بين الله تعالى أن إبليس لا يمكن أن ينظر إلى يوم القيامة، وهذا يدل على أن الأرض سوف تمر بفترة زمنية تكون خالية من إبليس ومن الإغواء، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: (قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون***قال فإنك من المنظرين***إلى يوم الوقت المعلوم) الحجر 36-38. ص 79-81.

من هنا يمكن الإشارة إلى التفريق بين طلب إبليس وبين إنظار الله تعالى له، فهو لم يكن من المنظرين إلى يوم البعث، وإنما أنظره الله تعالى إلى يوم الوقت المعلوم، وهذا يبين الفرق بين كل واحد من اليومين. فإن قيل: إذن ما معنى يوم الوقت المعلوم؟ أقول: هو الوقت الذي يسبق يوم القيامة ولم يعص الله فيه، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: (هو الذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) التوبة 33. الصف 9. فإن قيل: هل كان العصيان في الأرض بسبب إبليس؟ أقول: لم يكن إبليس السبب المباشر في العصيان، وإنما كان السبب في تزيين القبيح دون أن تكون له سلطة على اختيار الإنسان، ولهذا سوف يرفع تزيين القبيح بهلاك إبليس، وذلك في اليوم الذي هو موضوع بحثنا، وبناءً على هذا سوف يصل الإنسان إلى تأسيس المجتمع المثالي. هذا ما لدينا وللمفسرين في يوم الوقت المعلوم آراء أعرض لها:

الرأي الأول: قال الفخر الرازي في التفسير الكبير: قوله: (فأنظرني) متعلق بما تقدم والتقدير: إذا جعلتني رجيماً ملعوناً إلى يوم الدين فأنظرني، فطلب الإبقاء من الله تعالى عند اليأس من الآخرة إلى وقت يوم القيامة، لأن قوله: (إلى يوم يبعثون) المراد منه يوم البعث والنشور وهو يوم القيامة، وقوله: (فإنك من المنظرين***إلى يوم الوقت المعلوم) اعلم أن إبليس استنظر إلى يوم البعث والقيامة، وغرضه منه أن لا يموت لأنه إذا كان لا يموت قبل يوم القيامة، وظاهره أن بعد يوم القيامة لا يموت أحد فحينئذ يلزم منه أن لا يموت البتة، ثم إنه تعالى منعه عن هذا المطلوب وقال: (فإنك من المنظرين***إلى يوم الوقت المعلوم) واختلفوا في المراد منه على وجوه:

&أحدها: أن المراد من يوم الوقت المعلوم وقت النفخة الأولى حين يموت كل الخلائق، وإنما سمي هذا الوقت بالوقت المعلوم لأن المعلوم أن يموت كل الخلائق فيه. وقيل: إنما سماه الله تعالى بهذا الإسم، لأن العالم بذلك الوقت هو الله تعالى لا غير كما قال: (إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو) الأعراف 187. وقال: (إن الله عنده علم الساعة) لقمان 34.&

وثانيها: أن المراد من يوم الوقت المعلوم هو الذي ذكره إبليس وهو قوله: (إلى يوم يبعثون) وإنما سماه تعالى بيوم الوقت المعلوم لأن إبليس لمّا عينه وأشار إليه بعينه صار ذلك كالمعلوم. فإن قيل: لمّا أجابه الله تعالى إلى مطلوبه لزم أن لا يموت إلى وقت قيام الساعة، وبعد قيام الساعة لا يموت أيضاً، فيلزم أن يندفع عنه الموت بالكلية؟ قلنا: يحمل قوله: (إلى يوم يبعثون)إلى ما يكون قريباً منه، والوقت الذي يموت فيه كل المكلفين قريب من يوم البعث، وعلى هذا الوجه يرجع حاصل هذا الكلام إلى الوجه الأول.

وثالثها: أن المراد بيوم الوقت المعلوم يوم لا يعلمه إلا الله تعالى وليس المراد منه يوم القيامة.&

انتهى كلام الفخر الرازي.. والوجه الثالث الذي ذهب إليه هو نظير ما بيناه في معرض حديثنا.&

الرأي الثاني: قال الطباطبائي في الميزان: قوله تعالى: (قال فإنك من المنظرين***إلى يوم الوقت المعلوم) جواب منه سبحانه لإبليس وفيه إجابة ورد أما الإجابة فبالنسبة إلى أصل الإنظار الذي سأله وأما الرد فبالنسبة إلى القيد وهو أن يكون الإنظار إلى يوم يبعثون، فإن من الواضح اللائح بالنظر إلى سابق الآيتين أن يوم الوقت المعلوم غير يوم يبعثون، فلم يسمح له بإنظاره إلى يوم يبعثون، بل إلى يوم هو غيره ولا محالة هو قبل يوم البعث. وبذلك يظهر فساد قول من قال: إنه لعنه الله أجيب إلى ما سأل، واليومان في الآيتين واحد، ومن الدليل عليه قوله في سورة الأعراف في القصة: (قال إنك من المنظرين) الأعراف 15. من غير أن يقيد بشيء، أما فساد دعواه اتحاد اليومين في الآيتين فقد ظهر مما تقدم، وأما فساد الاستدلال بإطلاق آية الأعراف فلأنها تتقيد بما في هذه السورة وسورة ص من التقييد بقوله: (إلى يوم الوقت المعلوم) وهذا كثير شائع في كلامه تعالى، والقرآن يشهد بعضه على بعض وينطق بعضه ببعض.

وظاهر يوم الوقت المعلوم أنه وقت تعّين في العلم الإلهي، نظير قوله: (وما ننزله إلا بقدر معلوم) الحجر 21. وقوله: (أولئك لهم رزق معلوم) الصافات 41. فهو معلوم عند الله قطعاً، وأما أنه معلوم لإبليس أو مجهول عنده فغير معلوم من اللفظ، وقول بعضهم: أنه سبحانه أبهم اليوم ولم يبيّن فهو معلوم لله غير معلوم لإبليس لأن في بيانه إغراء بالمعصية كلام خال عن الدليل، فإبهام اللفظ بالنسبة إلينا غير إبهام ما ألقي إلى إبليس من القول بالنسبة إليه، على أن إغراء إبليس بالمعصية وهو الأصل لكل معصية مفروضة لا يخلو عن إشكال فافهمه. على أن قول إبليس ثانياً: (لأغوينهم أجمعين) شاهد على أنه سيبقى إلى آخر ما يعيش الإنسان في الدنيا ممن يمكنه إغواؤه فقد كان فهم من قوله تعالى: (إلى يوم الوقت المعلوم) أنه آخر عمر البشر العائشين في الأرض الجائز إغواؤهم ونسب إلى ابن عباس ومال إليه الجمهور، أن اليوم هو آخر أيام التكليف، وأمكنت المخالفة والمعصية، وهو مدة عمر الإنسان في الدنيا، وينتهي ذلك إلى النفخة الأولى التي يموت بها الخلائق فهو يوم الوقت المعلوم الذي أنظره الله إليه، وبينه وبين النفخة الثانية التي فيها يبعثون اربعمائة سنة أو أربعون سنة على اختلاف الروايات، وهي ما به التفاوت بين ما سأله إبليس وبين ما أجاب إليه الله سبحانه.

وهذا وجه حسن لو لا ما فيه من قولهم: إن إبليس باق ما بقي التكليف وأمكنت المخالفة والمعصية فإنها مقدمة لا بينة ولا مبينة وذلك أن تعويل القوم في ذلك على المستفاد من الآيات والأخبار كون كل كفر وفسوق موجود في النوع الإنساني مستنداً إلى إغواء إبليس ووسوسته، كما يدل عليه أمثال قوله تعالى: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين) يس 60. وقوله: (وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم) إبراهيم 22. إلى غير ذلك من الآيات، ومقتضاها أن يدوم وجود إبليس ما دام التكليف باقياً، والتكليف باق ما بقي الإنسان وهو المطلوب.

وفيه أن كون المعصية الإنسانية مستندة بالجملة إلى إغواء إبليس مستفادة من الآيات والروايات لا غبار عليه، لكنه إنما يقتضي بقاء إبليس ما دامت المعصية والغواية باقية لا بقاءه ما دام التكليف باقياً، ولا دليل على الملازمة بين المعصية والتكليف وجوداً. بل الحجة قائمة من العقل والنقل على أن غاية الإنسان النوعية وهي السعادة ستعم النوع ويتخلص المجتمع الإنساني إلى الخير والصلاح، ولا يعبد على الأرض يومئذ إلا الله سبحانه، وينطوي وقتئذ بساط الكفر والفسوق، ويصفو العيش وترتفع أمراض القلوب ووساوس الصدور، قال تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) الروم 41. وقال: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) الأنبياء 105. من ذلك يظهر أن الذي استندوا إليه من الحجة إنما يدل على كون يوم الوقت المعلوم الذي جعله الله غاية إنظار إبليس هو يوم يصلح الله سبحانه المجتمع الإنساني فينقطع دابر الفساد ولا يعبد يومئذ إلا الله لا يوم تموت الخلائق بالنفخة الأولى.&

انتهى موضع الحاجة من كلام الطباطبائي ومن أراد المزيد فليراجع تفسير الميزان.

&

[email protected]

&