من مفكرة سفير عربي في اليابان

لقد مرت على الأزمة السياسية الأخيرة بمملكة البحرين أكثر من ثلاث سنوات، وقد نحتاج لوقفة لمراجعة انجازات المعارضة خلال العقود الأربعة الماضية. وأرجو أن يكون صدرها مفتوح لقبول الدراسة والتقيم. ولنتذكر بأن الخالق، جل شأنه، خلق الإنسان وميزه بذكاء العقل، والذي يشمل ذكاء ذهني، يجمع المعطيات ويدرسها ويحللها، ليستطع اصدار قرارات صائبة وحكيمة. كما يشمل هذا العقل البشري الذكاء العاطفي، الذي يسيطر على عواصف العاطفة، ويوجهها في خدمة الانسان، والذكاء الاجتماعي الذي يوجهه لحسن التعامل والتناغم والتالف بين البشر، والذكاء الروحي& الذي يربط السلوك البشري بروحانية الاخلاقيات. ولنتذكر أيضا بأن دراسة تاريخ الآخرين، مع البحث في تجاربنا الماضية، قد تساعدنا تجنب تكرار الأخطاء الحياتية الاجتماعية والسياسية.
وقد مر على وطننا العربي تاريخ طويل منذ زمن الجاهلية، وحتى شموخ الحضارة الاسلامية، وما تبعتها من سيطرة عثمانية، واستعمار غربي، ولتبدأ حركات التحرر العربي في التخلص من الاستعمار، ولتبدأ مرحلة بناء مجتمعاته الجديدة. وقد مرت الكثير من الدول الأسيوية، كاليابان، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، وتيوان، على الكثير من التحديات التي مر بها وطننا العربي، ولكن استطاعت تجاوز هذه التحديات، لتكمل تطوير حداثتها، ولتحقق لشعوبها الاستقرار، والسلام، والتطور البشري العقلي الذهني العاطفي الروحي، والتقدم الصناعي التكنولوجي، والتنمية المستدامة. ولقد أدت الايديولوجيات، باقنعتها المختلفة، القومية، والاشتراكية، والشيوعية، والدينية، والطائفية، لإرهاصات متباينة في مجتمعات الشرق الأوسط، فبدل أن تتفرغ حركاتها السياسية لتحقيق الحداثة، والتنمية المستدامة، انشغلت بالتركيز على صراعات خلافاتها الأيديولوجية، بل احيانا، انشغلت بتصدير ايديولوجياتها، وانقلاباتها، وثوراتها للخارج، لتخلق لها أعداء، ولتنشغل عن الاستقرار والسلام والتنمية المستدامة،& بالحروب& والصراعات الخارجية، ليؤدي كل ذلك لزيادة كلفة التحديات الامنية والعسكرية، ولتنهك اقتصاد بلدانها، ولترتفع نسب التضخم الاقتصادي، ويتدهور سعر عملاتها، لتزداد الديون، فيقل الاهتمام بالتعليم والتصنيع، وترتفع نسب البطالة. وها نحن نعاني اليوم من تمزق شرق أوسطي وعربي محزن، لتفقد الدولة هيبتها وسيطرتها وقوتها، ولينتشر الارهاب في الكثير من مناطق مجتمعاتنا، وليتراكض الغرب لإنقاذنا مما نعيش فيه من ارهاب، وطائفية، وتطرف، وتمزق. وفي هذه الظروف الشرق أوسطية المحزنة، تقترب الانتخابات في مملكة البحرين، ولتبرز أمامها تحد اضافي، في محاولة المعارضة مقاطعتها.
وقد نحتاج اليوم لوقفة لتقيم المعارضة البحرينية، بعد أكثر من اربعة عقود من الاصلاحات السياسية والاقتصادية بمملكة البحرين، وفي خضم هذا الواقع المحزن، نقرأ في الصحافة نشاط مقابلات& المعارضة مع دبلوماسيي الغرب، ومحاولة التعاون معهم للوصول لحل للأزمة التي تعصف بواقع المعارضة البحرينية السياسي، بعد أن لم تحقق لمؤيدها أية إصلاحات سياسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية. وانا في حيرتي مما يجري، وما يمكن أن تنتظره المعارضة البحرينية من سياسيي الغرب، لفت نظري مقال يقيم تجربة الديمقراطية الأمريكية، للمفكر ألأمريكي الشهير، والياباني الأصل، البروفيسور فرانسيس فوكوياما، والذي كتب سابقا عن نهاية التاريخ، بانتصار الرأسمالية اللبرالية، بعد انهيار النظام الشيوعي، والإتحاد السوفيتي. وقد قرأت هذا المقال في المجلة الدبلوماسية ألأمريكية، فورنز أفيرز، في شهر سبتمبر الماضي، ويتحدث المقال عن حقيقة الديمقراطية الأمريكية بعد أن أرتفع الصرف الحكومي من 13%& في عام 1917 إلى 48% في عام 2013، وانخفض تأيد الحكومة الفيدرالية إلى 17%، والكونجرس الأمريكي إلى 10%، كما أن معظم الأمريكيين يعتبرون أنفسهم مستقلين، وليسوا مع الحزب الديمقراطي أو الحزب الجمهوري. ويبدو بأن الكاتب أنقلب رأس على عقب، عن ما طرحه من قبل عقدين ماضيين، عن انتهاء تاريخ العالم، بسيطرة اللبرالية الغربية على الاقتصاد العالمي، بعد انهيار الشيوعية والاتحاد السوفيتي.
& &فقد كتب فرانسيس فوكوياما يقول: لقد ميز الرئيس الأمريكي، ودرو ويلسون، كالمفكر الغربي، ماكس وبر من قبله، السياسة والادارة، ليؤكد بأن السياسة هي التي تحدد بنطاق النهاية، ومعرضة للمنافسة الديمقراطية، بينما تعتبر الادارة مختص بمجال التنفيذ، والتي يمكن أن تدرس بالتجربة، كما أنها معرضة للتحليل العلمي. وقد يعتبر اليوم فكرة تحويل الادارة العامة في الدولة لخبرة علمية فكرة ساذجة، ولكن في تلك الفترة من التاريخ، كانت تدار الحكومة في الدول المتقدمة بالسياسات الخارقة، أو بمسئولي البلديات الفاسدين، لذلك كان من المعقول المطالبة بأن يختاروا مسئولي الحكومة حسب مستوى قدراتهم وتعليمهم، بدلا عن المحسوبية. والمعضلة في الادارة العلمية هو أن خيرة العلماء اليوم يمكن أن ان يخطئوا، وأحيانا قد تكون أخطائهم كبيرة. ومثل لذلك مركز ادارة الغابات الأمريكية، في محاولتها محاربة الحرائق الصغيرة في الغابات. فمن المعروف اليوم بأن الحرائق الصغيرة في الغابات، هي جزء من ظاهرة طبيعية للتغيرات البيئية، للوقاية من الحرائق الكبيرة، كما أنها تغذي التربة. فتخلص الحرائق الصغيرة الغابات من الحشاش الغازية، لتمنع تزايدها، ولتقي من حرائق أكبر، كما أن هذه الحرائق الصغيرة توفر سماد طبيعي لأرض الغابة، فبذلك تمنع الحرائق الكبيرة، التي تدمر مساحات هائلة من الغابات.
ويعرض الكاتب مثل إدارة الغابة، لقلقه، بأن الادارة ألأمريكية، تمر بمرحلة حرجة من& التحديات، التي ستؤدي لتفاقم الاوضاع في الولايات المتحدة، وفقدان هيمنتها على العالم. فيعتبر الكاتب بان قصة ادارة الغابات ليست قصة معزولة، بل تتكرر في الكثير من الادارات الحكومية، وتبين الأبحاث بأن الادارات الحكومية الامريكية تمر بمرحلة "تسوس" في العمل الحكومي، ولأكثر من جيل. فبشكل عام، انتقلت البيروقراطية الأمريكية من المثاليات "الوبرية"، المتمثلة في إدارات الكفاءة والنشاط، والتي ضمت خبرات، اختيرت لقدراتها وكفاءتها العلمية، إلى حقائق مرة جديدة. فقد تغير النظام الأمريكي من الاختيار بالكفاءة، إلى الاختيار بالمحسوبية. فمثلا 45% من موظفي الحكومة الفدرالية مؤخرا، هم من المخضرمين، والمرشحين بالمحسوبية، من خلال نواب الكونجرس، بدل أن يختاروا من خيرة خريجي الجامعات الامريكية. ويعلق الكاتب بقوله: "ويبدو بأن موظفي الحكومة الفدرالية مشغولون بالتعويضات المالية، بدل مسئولية العمل والكفاءة، بل راغبون في وظيفة بعيدة عن المنافسة التجارية، وعن العمل التطوعي. كما أنهم مضطربين من قلة الموارد اللازمة، للقيام بأعمالهم بكفاءة، وغير راضين عن الحوافز العمل الجيد، وعدم محاسبة العمل السيئ، ولقد فقدوا ثقتهم بالمؤسسات الحكومية."
&وهنا يتساءل الكاتب: ما الذي يؤدي لتسوس المؤسسات؟ وقد يكون هذا السؤال مهم جدا للمعارضة البحرينية في بيئة الإصلاحات البحرينية الفتية. ويرد البروفيسور على سؤاله: "لقد استخدم بروفيسور العلوم السياسية بجامعة هارفرد، صاميول هاتنجتون، تعبير "التسوس السياسي" للتعبير عن عدم الاستقرار السياسي في الدول الجديدة المستقلة بعد الحرب العالمية الثانية. كما ناقش بأن الحداثة الاقتصادية والاجتماعية، سببت معضلات للنظام السياسي التقليدي، ليؤدي ذلك لتحرك مجموعات سياسية جديدة، التي لم تتمكن المشاركة في المؤسسات القديمة، مما ادى للتسوس السياسي، بعدم تمكن المؤسسات القديمة التالف والتلائم مع التغيرات الجديدة، فقد كان التسوس السياسي نتيجة للتطورات السياسية، حينما كان على القديم أن ينكسر، ليوفر مكان للجديد. ولكن في نفس الوقت، قد تكون المرحلة الانتقالية فوضوية جدا وعنيفة، ولم تكن هناك ضمانات بأن المؤسسات السياسية القديمة ستتلاءم باستمرار، وبسلاسة، وبسلمية، مع الظروف الجديدة. ويؤكد البروفيسور بأن هذا النموذج هو البداية لتفهم التسوس السياسي بشكله العام.
ويعقب البرفيسور: "وأهم دور للمؤسسات السياسية، كما شرحها هاتنجتون، هي في ميزتها في سلوكها المتكرر، والمستقر، والمقدر، للتسهيل القرارات الجماعية. فبدون مجموعة من القوانين الواضحة والمستقرة نسبيا، تتعقد اوضاع المجتمع، بسب أن افراده عليهم مناقشة تفاعلاتهم في كل زاوية، كما تقرر هذه القوانين عادة الثقافة المجتمعية، وتختلف باختلاف المجتمعات، ولكن يرتبط قدرة الالتزام بها بالتطور العقلي المجتمعي. بينما تساعد الميول الطبيعية للانسياق على جمود المؤسسات، التي سمحت للمجتمعات البشرية الوصول لدرجة من الاستقرار والتعاون، والمشكلة أن استقرار المؤسسات وجمودها، هي سبب أيضا للتسوس السياسي. فقد أسست المؤسسات لكي تعالج ظروف معينة، ولكن حينما تتغير هذه الظروف، تفشل في التلائم مع التغيرات الجديدة الضرورية لمعالجة التحديات الجديدة. وقد تكون أحد الاسباب معرفية، لأن البشر يطورون عادة نموذج عقلي معين لكيفية عمل العالم، ويميلون للالتصاق به، وحتى حينما تكون التناقضات جلية. ويتعلق السبب الاخر بمصالح المجموعة، فالمؤسسات تخلق طبقتها المفضلة داخليا، الذين& يحافظون على الجمود لحماية مصالحهم، فيقامون ضغوط الاصلاح.
ويعقب البروفيسور فكوياما بان: "الديمقراطية الامريكية فشلت مرارا في تنفيذ ما تنادي به، فالنخبة تملك السلطة والمعلومة، لتدافع عن مصالحها. ولن يغضب المواطن على سياسي فاسد إذا لم يعرف بأنه قد سرق المال العام، كما أن العقائد المتزمة& تمنع القوى السياسية في التحرك للدفاع عن مصالحهم، ومثل ذلك دعم الطبقة المتوسطة الأمريكية النواب الذين يصرون على خفض الضرائب على الأثرياء، مع أن هذا الخفض سيوقف الكثير من الخدمات المجتمعية المجانية. وترتبط الديمقراطية اللبرالية باقتصاد السوق، والتي تؤدي لخلق الرابحين والخاسرين، وقد يسبب ذلك عدم المساواة، والذي قد يخلق الاختراع والإبداع ويطور الاقتصاد، بشرط أن يكون هناك تساوي في حق الجميع للوصول للمنافسة الحرة. ولكن تتعقد السياسة حينما يصر الاثرياء على تأثير سياسي غير عادل، برشوة البرلمانيين ورجال الحكومة، بل والأخطر أن يحولوا قوانين البرلمان للدفاع عن مصالحهم الجشعة. لذلك ينتشر التسوس السياسي حينما تفشل المؤسسات التالف والتلائم مع الظروف الخارجية المتغيرة، أما بسبب عقائد متزمة، أو بسبب النخبة التي تحاول أن تحافظ على مصالحها بمنع الاصلاحات. ومع ان النظام الديمقراطي يملك نظريا القدرة على الاصلاح الداخلي، ولكن يتسوس حينما يجتمع التطرف والتزمت الايديولوجي مع تشريع لوبيات المصالح الخاصة، لتتوقف الاصلاحات اللازمة، والذي تعاني منه الولايات المتحدة اليوم، بعد أن اصبحت المؤسسات السياسية مشلولة. فمن المفروض في الديمقراطية اللبرالية أن تستخدم السلطة التنفيذية سلطاتها لتنفيذ القانون وسياسات الدولة، بينما تقيد إدارة العدل والسلطة التشريعية، السلطة التنفيذيه وتوجهها لخدمة الشعب."
وقد تطورت الادارة الامريكية مع زيادة هائلة في حجم الحكومة، كما لم تغير تصريحات ريجن عن صغر الحكومة حجم الصرف الحكومي والضرائب، فيبدو بأنه من الصعب التخلص من الحكومة الضخمة، مع أن زيادة مسئوليات الحكومة في القرن العشرين غطت على ما يحدث من تسوس في هيكل الحكومة، بعد ان تحولت الولايات المتحدة لدولة المحاكم والاحزاب، بحيث اصبحت المحاكم والبرلمان متقدمة على الإدارة التنفيذية، مما أدى لتحول وظائف الحكومية لوظائف متناقضة وغير كفئة أو منتجة. كما خلقت اللوبيات طرق اخرى بدل الرشوة، للسيطرة على البرلمانيين وتشريعاتهم، لتتلاعب بالضرائب، والصرف الحكومي، والديون، لتحقيق مصالحهم. وقد أدى كل ذلك لفقد الشعب الاميركي الثقة بالحكومة الفيدرالية والكونجرس، مع ضعف كفاءة الادارات الحكومية، ليؤدي كل ذلك لحكومة جامدة، مضطربة، وغير مبدعة، وغير& منتجة.& وستستمر هذه السياسات& الامريكية المضطربة حتى تأتي صدمة خارجية لتشعل اصلاح تحالفي، وتحشد للعمل من جديد. والسؤال لعزيزي القارئ: بعد أن أكتشف فيكوياما التسوس في الديمقراطية الأمريكية، هل حان الوقت للمعارضة البحرينية لدراسة واقع تجربتها، لاكتشاف اية تسوس ينخر في تنظيماتها وايدولوجياتها المتعددة، لكي تحاول معالجته واصلاحه، لتلعب دورا جديدا في خلق مملكة دستورية بحرينية متناغمة ومتجانسة، لتحقق السلام، والتنمية، والسعادة، والرخاء، لشعبها وأجيله المستقبلية؟&&

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان