&

دار في الأيام القليلة الماضية في كثير من الاوساط المتابعة للتطورات الميدانية في العراق الحديث عن فرضية احتلال بغداد من قبل تنظيم داعش الارهابي. فالعاصمة العراقية بالنتيجة تمثل جائزة كبرى يسعى الارهاب الى فرض سيطرته عليها لاعتبارات جيوبولتيكية متعددة ستسهم بالنهاية في تمدده باتجاه نطاقات تتيح له القدرة على فرض مزيد من السيطرة والتحكم وبالتالي امكانية وصول جماعة ارهابية الى حكم العراق وربما لاول مرة في التاريخ المعاصر النجاح بالعمل على انهاء امة كاملة بسياسات القتل الطائفي.&
&
تطرح في هذا الموضوع العديد من التصورات التي تؤكد بان هذا المشهد المتشائم لن يتحقق طالما ان بغداد لا تعد حاضنة للارهاب ولا يميل غالبية سكانها للترحيب بداعش بمن فيهم ابناء المكون السني فهم يتخذون موقفا سلبيا من هذا التنظيم بعد ان عرفوا حقيقة ما جرى في الموصل وبقية النطاقات التي هيمن عليها، دون ان ينفي ذلك وجود بعض الخلايا النائمة التي ستنشط بشكل اقوى في المستقبل كلما تقدم التنظيم خطوة نحو حزام بغداد. كما يشير البعض الى حقيقة مفادها بان القوات العسكرية قد ازداد عددها في الاونة الاخيرة خاصة بعد ازمة الموصل حيث تعززت بقوات الحشد الشعبي التي تشكل اليوم مصدر قوة مهم للدفاع عن بغداد. هذا ناهيك عن الثقل السكاني الذي ستلعبه الكثير من احياء بغداد في التصدي بقوة لمثل هذا الاحتلال المفترض، وهو ما يؤمل له ان يسهم بشكل كبير في رسم ملامح الجغرافيا العسكرية لبغداد في مثل هذا المشهد وبالطريقة التي تجعل من فكرة الاحتلال هذه غير قابلة للتمرير في ظل الاندفاع الذي ستشهده المحافظات الجنوبية للدفاع عن كثير من المعطيات المهمة في العاصمة وبالذات منها مدينة الكاظمية التي تحظى بقيمة دينية عالية لديهم.&
&
بالتاكيد هنالك الكثير من المعطيات التي تؤكد باستحالة سقوط بغداد بيد الارهاب في الوقت الحاضر.الا ان الجميع يعلم بان الحرب بالنتيجة تخضع لاعتبارت اخرى قد تتسبب بانهيارات مفاجئة بمرور الزمن في حال غياب الخطط الاستراتيجية والقيادات الميدانية الكفوءة التي تناط بها مسؤولية تامين العاصمة خاصة وان التاريخ القريب اثبت بان احتلال بغداد في 2003 جاء بفعل خيانة عسكرية كما حصل لاحقا في الموصل في 2014. وهو مشهد قابل للتكرار في ظل قدرة هذا التنظيم والقوى الداعمة له على شراء الذمم والمساومة بالطريقة التي ستسمح له باختراق نقاط الضعف في هيكلية المؤسسة العسكرية وفي النطاقات الجغرافية المتنوعة لمدينة بغداد، على اقل تقدير ان لم يكن لاحتلالها فسيكون من اجل العمل على اشاعة الفوضى ولنقل الاقتتال من اطرافها باتجاه احيائها المهمة.&
&
لازالت بغداد تترنح بين قوة فرضية اثارة الفوضى وتمددها وضعف فرضية الاحتلال في المديين القريب والبعيد. ومابين الفرضيتين تتجمع سحب كثيفة من التطورات تثبت مصداقية القلق من المصير الذي سينتظر هذه المدينة. ففي الايام الماضية تمكن داعش من السيطرة على اجزاء واسعة من الرمادي التي تلعب دورا كبيرا في موضوع التماس مع امن العاصمة. لذا وجدنا بان الحكومة العراقية قد قامت في ردة فعل مباشرة على هذا الحدث بارسال تعزيزات عسكرية قال البعض ان عددها وصل الى 60 الف مقاتل باتجاه تأمين مناطق حزام بغداد خاصة منها تلك التي تجاور جغرافيا محافظة الانبار بهدف توفير التعزيزات التي من شانها ايقاف زحف داعش باتجاه هذه النطاقات التي طالما كانت مصدرا مستمرا للضعف في تركيبة الاوضاع الامنية في العاصمة.&
&
في مقابل ذلك تحدثت بعض التقارير عن انه كان هنالك تمدد فعلي للقتال في مداخل بغداد بعد ان انتشر مسلحو داعش ونشطت خلاياهم النائمة في مدينة ابو غريب ليكونوا على بعد 15 ميل عن مطار بغداد المهم استراتيجيا ونقطة الضعف الجيوبولتيكية في خريطة العاصمة التي لم تعالج على مر السنوات الماضية. وقد عد البعض بان تلك الاشارات فيها قدر عال من الخطورة التي تتهدد العاصمة ليس فقط بفتح جبهة حزام بغداد واشعالها في حالة فوضى خارجة عن السيطرة والتحكم فحسب، بل تكمن خطورتها الفعلية في قدرة هذا التنظيم على اشغال المؤسسة العسكرية بالكامل بموضوع امن بغداد وترك الانبار تتهاوى دون مقاومة تذكر لتسقط بيد الإرهابيين لتمتد الحدود الفعلية لجغرافيتهم من الرقة الى مشارف بغداد في خطوة يبدو بانها لم تغب يوما عن مخيلة قادة هذا التنظيم الحالمين دوما بالتوسع الجغرافي.&
&
لذا فان الحكومة اليوم مطالبة ليس فقط بإبعاد شبح تواجد هذا التنظيم عن محيط بغداد بل مقاتلته في الانبار للحيلولة دون سقوطها الفعلي بيده، على اعتبار ان ذلك السقوط سيكون بمثابة المنصة التي تنطلق منها الشرور باتجاه العاصمة بطرق متعددة ذات علاقة بسد حديثة وبالقواعد العسكرية الكبيرة المتواجدة هناك والتي تشهد منذ اسابيع هجمات شرسة للهيمنة عليها بفعل قيمتها الاستراتيجية العالية.&
&
ان ادراك الطرف الامريكي حقيقة هذه النوايا في مقابل تراجع قدرة المؤسسة العسكرية في الحفاظ على الانبار وبالتالي وضع بغداد في دائرة الخطر المباشر، جعلهم يؤكدون بانهم لن يقفوا مكتوفي الايدي في متابعة ما يجري لاعتبارات تتعلق بمصالحهم العليا أولا وأخرا. ففي هذا الصدد مثلا قال مارتن ديمبسي " اننا لن نسمح لداعش بالسيطرة على مطار بغداد لاننا بحاجة اليه ". كما اشارت الكثير من التقارير الى ان السفارة الامريكية لازالت تضم الآلاف من الموظفين الامريكان فضلا عن الآلاف اخرين من الاجانب المتواجدين في بغداد للعمل في مجالات مختلفة. لذا لا يمكن التضحية بهذه الاعداد بسهولة في ظل فرضية التخلي المطلق عن مساعدة بغداد التي يبدو اليوم انها تعيش مأزقا آخر ينمو بالتوازي ومشهد التخوف من مصير العاصمة.&
&
هذا المأزق تتشكل ملامحه بالدور الامريكي المضطرب فحتى هذه اللحظة لا يوجد هنالك وضوح في الاستراتيجية الامريكية حيال الحكومة والوضع العام كما لا يوجد توافق في الادارة الامريكية من موضوع كيفية محاربة داعش، وهو ما يخلق لنا كعراقيين المزيد من المخاوف حين يتم ربط كل ذلك بأمن العاصمة. فالخارجية الامريكية تؤكد بان استراتيجية واشنطن المفترضة لمكافحة الارهاب سوف لن تتغير حيث ستستمر في التاكيد على محورين مهمين الاول احتواء داعش وتعطيل تقدمها عبر الطلعات الجوية والثانية تقوم على اساس استخدام القوة في الميدان عبر الجيش العراقي. لذلك نجد جون كيري يقول " ان الضربات الجوية التي تقوم بها اميركا سوف تعمل على اضعاف داعش. الا ان موضوع قتالهم على الارض متروك للعراقيين فاستعادة المدن المحتلة هي مسؤوليتهم التي يتوجب عليهم القيام بها ". علما بانه المشروع الاقرب لتطمين مخاوف العراقيين من فكرة الاحتلال اذا ما ترافقت وتفعيل مثل هذه الضربات التي يفترض بها ان تكون مدعومة باخذ زعمام المبادرة والتحول لموقف المهاجم من قبل الجيش العراقي.&
&
في حين تؤكد وزارة الدفاع الامريكية الحاجة الى تغيير هذه الاستراتيجية في ظل التطورات الميدانية الأخيرة بالقول ان هنالك حاجة ماسة لتواجد عسكري امريكي لمساندة القوات العراقية في قتالها ضد داعش على اعتبار ان الطلعات الجوية اثبتت بانها لايمكن ان تكون علاجا فعالا لازمة تمدد هذا التنظيم، خاصة وان هذه الطلعات لا يرافقها جهد استخباري مناسب يسهم في ايصال المعلومة الدقيقة كما يفتقد الى موقف ميداني عسكري راسخ يسهم في مواجهة الحركة السريعة لداعش باتجاه بغداد.&
&
بين الموقفين بقيت الحكومة العراقية في حالة تردد فهي اعلاميا تصرح بالتحفظ ازاء الرغبة التي ابدتها وزارة الدفاع الامريكية لاسباب تتعلق بالرفض الداخلي لفكرة عودة قوات الاحتلال للتواجد في العراق، لكنها فعليا تميل الى تدارس هذا الموضوع او ربما الاقبال عليه تدريجيا لامتصاص نقمة الجهات المعارضة عبر العمل على تعديل مساره. والدليل على ذلك توافر انباء مؤكدة تشير بقدوم مئات المستشارين العسكريين للانتشار في القواعد العسكرية المهة في ديالى والانبار، فضلا عن انباء تشير الى نية البنتاغون ارسال 500 مقاتل للمساهمة في الحرب ضد داعش. لذلك يرى البعض ان بغداد اليوم مهددة عمليا باكثر من احتلال وبان الخيارات المطروحة امام الحكومة ستكون في غاية الصعوبة مابين الاعتماد على الية الدفاع الوطني عن بغداد التي يبدوا بانها لن توقف على اقل تقدير نقل مشهد الفوضى اليها، ومابين القبول باستقدام قوات امريكية تعيد الى الاذهان فكرة الاحتلال التي لازالت بعد لم تجف صفحاتها السوداء.&
&
مثلما يملك الارهاب مشروعه ومصالحه التي يريد تأمينها عبر احتلال بغداد فان واشنطن هي الاخرى لديها مصلحة مهمة في التواجد على الارض عبر استغلال التمدد الحاصل لداعش وانتظار لحظة الضعف الحكومي التي ستتقدم بالنهاية ( بحسب ما تراه الإدارة الأمريكية ) بطلب رسمي يوفر الغطاء الشرعي لعودة هذه القوات الى العراق. في هذا الصدد هنالك تسريبات تتحدث عن قيام مسؤولين مهمين في الحكومة العراقية بالعمل على طلب المساعدة العاجلة من واشنطن لنشر قوات برية لمساعدة الجيش العراقي في وقف زحف الارهاب باتجاه بغداد. وقد جاءت مثل هذه التسريبات متزامنة مع التطورات التي حدثت في عامرية الفلوجة ( آخر معاقل الجيش العراقي في الانبار ) التي تحولت الى ميدان قتال شرس يقوم فيه الارهاب بتجميع الكثير من قواه للهيمنة عليها بفعل موقعها الاستراتيجي الذي لا يبعد اكثر من 25 ميل عن بغداد. وخطورة هذا التطور لا تكمن في انه سيسهم في احتلال بغداد في الوقت الحاضر لانه كما ذكرنا امر مستبعد، بل في القدرة على تحقيق مشروع التواصل الجغرافي مع اطراف شمال بابل وجنوب العاصمة ليتم ضرب طوق محكم على بغداد من هذه الجهات التي يبدو بانها تشكل البطن الرخوة للعاصمة.&
&
في ظل ما تقدم هنالك تاكيدات ايجابية تشير الى انه لا توجد حتى اللحظة مؤشرات تفيد بان داعش قادر بشكل فعلي على احتلال بغداد، الا ان المشهد المتعلق بهذه الحقيقة يحمل في طياته الكثير من التفاعلات المحلية والاقليمية التي ستسهم في تحديد الصيغة النهائية لمعالم صورته المستقبلية. وكل ذلك سيعتمد بالنتيجة على موقف الحكومة العراقية وقراراتها التي يمكن ان تثبت من خلالها بانها قادرة على ادارة هذه الازمة بما يعمل على تطمين مخاوف العراقيين من تداعياتها وابقاء بغداد حلما عصيا على المتربصين سوءً بها وبمستقبلها.&
&

&كاتب واكاديمي عراقي&