تؤسس الدول علاقاتها السياسية وفقا لمصالحها القومية والوطنية،ويكون الأساس في هذه العلاقات هو التوازن والتكافوء والإحترام المتبادل للسيادة الوطنية لكل دولة. وتشذ قيادة إقليم كردستان عن هذه القاعدة بتفضيل مصالح الدول الأخرى على مصالحها غالبا، وفي أحيان أخرى تبني علاقاتها على أساس المصالح الحزبية وليس على أساس المصلحة القومية أو الوطنية، والعلاقات التركية مع إقليم كردستان هو المثال الأبرز بهذا المجال.

فعلى رغم إرتباط قيادة كردستان وعبر عقود طويلة بعلاقة تاريخية وسياسية متميزة مع إيران التي إحتضنت لفترات طويلة الثوار الكرد وقدمت لهم الدعم السياسي واللوجستي بمختلف مراحل الثورات الكردية ووفرت لقياداتها الملاذ الآمن، وآوت في فترات أخرى الشعب الكردي عندما كان يتعرض للإضطهاد والملاحقة من قبل النظام الدكتاتوري السابق،إتجهت قيادة كردستان في السنوات السبع الأخيرة وتحديدا قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يقوده مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان الى بناء علاقات أشبه بزواج المصلحة مع تركيا على حساب العلاقة التاريخية مع إيران.

وتركيا التي كانت الى ماقبل سنة تحرم على الشعب الكردي إستخدام اللغة الكردية وكلمة كردستان، وتسجن وتعدم كل كردي يطالب بحقوقه القومية والثقافية، تحولت بعد مد إنبوب النفط الكردي عبر أراضيها الى أحد أهم حلفاء قيادة حزب بارزاني الذي إنغمس مؤخرا بتجارته النفطية مع تركيا بالضد من موافقة الحكومة الإتحادية التي كان لحزب بارزاني دورا في إدارتها من خلال عدد من وزرائه ومنصب نائب رئيس الوزراء الإتحادي.

في مقالات سابقة تحدثت عن إهدار ثروتنا النفطية وعن خطأ السياسة النفطية التي تنتهجها حكومة الإقليم بقيادة حزب بارزاني، فقبل ثماني سنوات تحديدا كتبت مقالا من على منبر إيلاف وقلت فيه، أنه من الخطأ لقيادة كردستان أن تستخرج النفط من باطن الأرض في وقت تتلقى سنويا ميزانية معتبرة من بغداد بمليارات الدولارات هي الحصة البالغة 17 بالمائة من موازنة الدولة، وطالبت قيادة الإقليم بإقفال جميع الحقول والآبار النفطية والإحتفاظ بهذه الثروة لعقود أخرى لتستفيد منها الأجيال القادمة، لكن يبدو أن قيادة كردستان وتحديدا حزب بارزاني فضل المضي بمعاندة العراق ومعاداة حكومته والتي لم يجن منها الشعب الكردي غير محنة قطع الأرزاق، في وقت لم تستطع قيادة كردستان من تأمين ولو الحد الأدنى من الأموال عن الإيرادات النفطية لدفع رواتب موظفي الحكومة، ولم تفكر أساسا بإدخار بعض الأموال لتأمين ميزانية الإقليم في وقت كانت كل الإحتمالات تشير الى قطع حصة كردستان من موازنة الدولة من قبل نوري المالكي.

من مجمل هذه المواقف العدائية إستفادت تركيا عبر إستنزاف حصة معتبرة من أموال تدفق النفط الكردي وتصديره عبر موانئها،وبذلك قدمت قيادة حزب بارزاني أفضل خدمة لتركيا لإنعاش إقتصادها إضافة الى توفير فرص العمل أمام آلاف الشركات التركية العاملة بكردستان وتفضيلها في عقود البناء والإعمار، وبالمقابل تردى الإقتصاد الكردي المحلي بفضل الحصار المالي من الحكومة الإتحادية وهروب رؤوس الأموال الكردية الى الخارج وتوقف مئات المشاريع الإنمائية بسبب أزمة النفط مع بغداد.

كان حزب بارزاني يأمل من خلال تحسين علاقاته مع تركيا أن تكون هذه الدولة سندا لها في المنطقة، فكما أن الإتحاد الوطني إرتبط بحلف ستراتيجي قوي مع إيران، إختار بارزاني عن طريق الخطأ الحليف التركي ليرتمي بين أحضانه ويعول عليه بالدعم السياسي والاقليمي، لكن تركيا التي تشربت العداء لكل ماهو كردي خيبت ظن بارزاني في أول إمتحان حقيقي للتحالف المصيري الذي أوقع بارزاني نفسه به، فقد كانت أربيل مقر قيادة حزب بارزاني على وشك السقوط بيد تنظيم داعش وبحسب إعترافات قادة هذا الحزب لم تبق سوى كيلومترات عديدة لوصولهم الى مطار أربيل الدولي، ولكن تركيا لم تحرك ساكنا، بل على العكس تماما أيدت تنظيم داعش الإرهابي ومكنته من الإستقواء بها لتنفيذ أجنداته ضد إقليم كردستان.

وها هي تركيا اليوم تمارس دورا بمنتهى الحقارة تجاه الكرد السوريين الذين يواجهون اليوم أشرس حملة إرهابية بمناطقهم وتحديدا ضد كوباني المحاذية لحدودها.فتمنع وصول أي دعم لوجستي لمقاتلي هذه المدينة الصامدة،بل أنها تطالب بوقاحة إتاحة الفرصة أمامها لإحتلال أراض سورية وعراقية كشرط للسماح بوصول ذلك الدعم اللوجستي.

تاريخيا كان حزب بارزاني من أول وأهم حلفاء إيران طوال العقود السابقة، بل أن هذا الحزب قاتل الى جانب إيران القوى المعارضة لهذا النظام، وإتخذ حزب بارزاني بعد إنهيار ثورة الملا مصطفى إيران منطلقا للعودة الى الثورة مجددا في كردستان العراق بدعم من ايران، ولكن بقدرة قادر تحول ذلك التحالف التاريخي الى ما يشبه العداء المبطن بالميل نحو تركيا وتكريس نفسه لخدمة أجندات تركيا الإقليمية بالمنطقة خصوصا ضد حليفة الأمس إيران.

قبل فترة ومع دخول داعش الى الموصل وثم إحتلاله لبعض المناطق العراقية، كانت إيران أول من إندفع لنجدة العراقيين، ورغم العلاقة المذهبية التي تربط إيران بالحكومة العراقية، لكنها أبدت تعاونا وإستعدادا من أجل الدفاع عن إقليم كردستان، وبحسب ما أسر لي أحد القيادات الكردية" أن إيران أبلغت قيادة الإقليم أنها لن تسمح بوقوع العراق وكردستان بين براثن تنظيم داعش، وأنها مستعدة لإرسال جنودها كما فعلت مع نظام بشار الأسد وستدافع عن العراق حتى آخر لحظة". وزيارات قاسم سليماني الى العراق ومنها بعض المناطق التي يسيطر عليها البيشمركة هو دليل على مدى إهتمام إيران بالمنطقة واستعدادها لمواجهة تنظيم داعش وتهديداته لوحدة الأراضي العراقية.

هذا المقال ليس دفاعا عن إيران ولا محاباة لها، فإيران بدورها لاتختلف في مصادرة حقوق الشعب الكردي بكردستان الشرقية،ولكن السياسة كما نعرفها هي فن الممكنات،ومن يعمل بالسياسة يجب أن يفرق بين العدو والصديق وأن لا يندفع بمواقفه وسياساته وفق مصالحه الشخصية أو الحزبية، بل يجب أن تكون الأولوية والأفضلية للمصلحة العامة القومية والوطنية، لأن أي علاقة تنشأ خارج نطاق هذه المصالح إنما تتحول الى علاقة عمالة لهذه الدولة أو تلك.

السؤال هنا هو كالتالي: إذا كانت إيران مستعدة للدفاع عن أرض العراق، وتركيا تسعى لإحتلال أجزاء منها تحت ذريعة إقامة مناطق عازلة وآمنة. وإذا كانت إيران مستعدة لخوض الحرب الى ما لانهاية ضد تنظيم داعش الإرهابي، وتركيا تمنع وصول أية مساعدات عسكرية لأكراد المنطقة للوقوف بوجه داعش. وإذا كانت إيران مستعدة لدعم قوات البيشمركة بكافة أنواع الأسلحة والدعم اللوجستي، وتركيا تقفل حدودها أمام المساعدات العسكرية للكرد في سوريا، وتفتح حدودها أمام تدفق المقاتلين الى تنظيم داعش وتقدم تسهيلات مالية لعناصره في البنوك التركية، فما الذي يغري قيادة الإقليم وشخص رئيسه مسعود بارزاني لكي يضحي بكل المصالح القومية من أجل إدامة علاقته مع تركيا التي لولا إغراءات النفط الكردي لما أوقفت جرائمها وقصفها لمدن ومناطق إقليم كردستان؟.

حقيقة السياسات الإستراتيجية لتركيا تجاه إقليم كردستان كانت مكشوفة منذ زمن بعيد، لكن ورقة التوت الأخيرة سقطت عنها بموقفها المخزي من هجمات داعش الإرهابية على كردستان، وسكوتها المطبق حول جرائم داعش والتي يبررها بعض قادة حزب بارزاني بعدم وجود إتفاقات عسكرية بين الإقليم وتركيا، وكأن أمر فتح الحدود لوصول لاجئي كوباني الى داخل الأراضي التركية أو فتح المعبر الحدودي لوصول المساعدات اليها تحتاج الى إتفاقية الدفاع المشترك أو الى عضوية كردستان بحلف الناتو،مع أن هذه المواقف الإنسانية هي أقل ما كان ينتظر من حليف إقليمي بوزن تركيا التي تحلب إقليم كردستان وتجني من وراء نشاطاتها الإقتصادية سنويا بحدود عشرين مليار دولار.ولو كانت تركيا تتحلى ولو بشيء قليل من الشعور بالمسؤولية لحافظت على الأقل على السوق الكردستاني الرائج لبضائعها ولا نقول أنه كان يفترض بها أن تتدخل عسكريا لصالح إنقاذ حليفها الإستراتيجي حزب مسعود بارزاني.

والسؤال المهم الذي ينتظر إجابة السيد مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان العراق هو ماذا ينتظر سيادته من حليف يبيع صديقه وقت الضيق ويمكن عدوه منه ويغلق الحدود بوجهه بل تصل الصفاقة به الى حد أن يطالب بإحتلال جزء من أراضيه؟؟

&هذا هو السؤال الذي ننتظر بارزاني أن يرد عليه، أم تراه سيلتزم الصمت كما هو معهود منه في الأسئلة المثارة حول تركيا التي مازالت تستقبل يوميا كميات هائلة من النفط الكردي المتدفق عبر أراضيها؟.

&

[email protected]

&