فيما مضى كنتُ أرى صوابَ هذه الفكرة القديمة المعاصرة المنتشرة في كل أنحاء العالم، من السياسة إلى السينما إلى الأديان. الفكرة التي تتجلى أبعادُها في السيناريوهات الدينية لنهاية العالم، كما في أفلام هوليوود و محور الشر و خطب الجمعة التي تُختَتَمُ بـ "اللهم شَتِّتْ شملهم و أهلك نسلهم"، و القائمة تطولُ و لا تنتهي. فكرة أن الحياة صراع بين الخير و الشر، بين الحق و الباطل، بين النور و الظلمة. لكني الآن أدركُ كم أن هذا المنظار للحياة يسبب عذابات كبيرة للبشر و يجلب الدمار و الموت معاً.

أولاً لأن التصنيف إلى خير و شر ليس معلقاً هكذا في الفراغ، إنما هو في النهاية ينطبق على أفراد محددين و جماعات بعينها. من حيث المبدأ، الخير و الشر مفهومان مجردان، لكنهما ككل المفاهيم المجردة الأخرى حين ينزلان إلى أرض الواقع لا يلبثان أن يتجسدا في معتقدات أو نظم فكرية أو رؤية ما للحياة، أي أن رؤية الإنسان للخير تأخذ شكل هذا المعتقد\الفكر أو ذاك. و لهذا عندما يعتقد الإنسان بأن الحياة قائمة على الصراع بين قوى الخير و قوى الشر، فهو في الحقيقة يقرر ما الخير و ما الشر وفقاً لتلك المعتقدات أو الأيدولوجيات أو المذاهب السياسية أو الفكرية. الخطوة التالية هي أنه سيصنف الناس وفقاً لانتماءاتهم، بمعنى أن المنتمين إلى وجهة نظري أو معتقدي في الحياة هم أهل الحق و الآخرون هم أهل الباطل، و في المحصلة سيكون هنالك أفراد و جماعات و ربما شعوب بأكملها تمثل الخير و أخرى تمثل الشر بناءً على انتماء الناس أو عدم انتمائهم لتلك الفكرة أو ذلك المذهب. و هكذا فإن ما يبتدئ في أذهاننا صراعاً مع الشر ينتهي في الواقع حرباً على البشر.

ثانياً، مهما بدت المعايير التي يصنف الإنسان بها الخير و الشر موضوعية فهي ليست كذلك، بل يشوبها دائماً التحيز للذات و تحكمها المصلحة. لا يوجد إنسان على وجه الأرض سيضع نفسه في خانة الأشرار مهما كان مجرماً، دائماً هنالك مبررات و تأويلات تجعل الإنسان يتصور بأنه في جانب الخير من هذا العالم. حتى عندما يرتكب أفعالاً لا شك في قبحها كالقتل أو السلب مثلاً، فسيظل يعتقد بأنه من أهل الخير، إما لأن تلك الأفعال تكون موجهة إلى من يصنفهم هو أشراراً أو في خدمة ما يراه هو خيراً.

ثم في معظم الأحيان يكون التصنيف متبادلاً، فالذين نراهم في معسكر الشر هم أيضاً يروننا كذلك. لننظر مثلاً كيف يرى أهل الديانات الإبراهيمية بعضهم. كيف يرى اليهوديُ المسلمَ، و كيف يرى المسلمُ اليهوديَ؟ أم كيف يرى المسلمُ المتدينُ "النصارى" و كيف يرى المسيحيُ المتدينُ المسلمين؟ كلٌ من هؤلاء يرى نفسَه النور في مواجهة ظلمة الآخر. أما في السياسة فالشواهد أكثر من أن تعد، لعل من أبرزها في الأمس القريب انقسام العالم بين المعسكَرَيْن الإشتراكي و الرأسمالي، و كيف كان كل طرف يَلبس وجه الحَمَل و يلقي على الآخر إهابَ الذئب.

كل هذه الشيطنة و الاستقطاب ليسا مزحة، بل يُترجمان إلى خراب و موت في هذا العالم، و في لعبة الدم هذه، رجال السياسة و رجال الدين هم الذين يحتلون الصدارة في تأجيج النار المقدسة.

هي نغمة واحدة تجدهم يصرون على ترديدها، من رئيس الدولة إلى شيخ الجامع في حينا إلى الراباي من حزب شاس إلى قس الكنيسة في تكساس. جميعهم يلقون في أذهان أتباعهم أن لا مجال لاتخاذ مواقف مهادنة أو محايدة، أنت إما معنا أو علينا.

هذا لا يعني أن الخير و الشر ليسا موجودين في الحياة، لكن وجودهما شيء و تصور الحياة بمجملها على أنها صراع بين أهل الخير و أهل الشر شيء آخر تماماً، يقومُ دائماً على تزكية الأنا و وصم الآخر، و تُحرِكُه من حيث نشعر أو لا نشعر المصالح الضيقة و التحيز الأعمى.

الأبيض و الأسود ليسا موجودين في هذا العالم، هما في أذهاننا فقط، و يصيران في منتهى الخطورة عندما نرى العالم بمنظارهما. بعكس اللون الرمادي الذي هو لون الحيرة. الحيرةُ التي تورِثُ التساؤلَ. التساؤلُ الذي يحمي الإنسان من يقينياته المتوحشة.

&

[email protected]