صدعونا بحقوق الإنسان.. عايرونا بأننا " راسبون " فى الديموقراطية.. وفاشلون فى الحريات.. اتهمونا بأننا عبارة عن " معتقل كبير ".. نكمم الأفواة.. نقهر الإرادة.. نسجن الصحفيين.. ساووا بيننا وبين الإتحاد السوفيتى السابق وربما أشنع..

اتحدث عن الأوروبيين والامريكيين الذين وصفونا بكل النعوت الحيوانية والخصائل الجاهلية وقالوا أننا لا نحترم ادمية البشر أو حقوقهم وأن مصر عبارة عن " زنزانة كبيرة "..

قبل أيام قرأنا عن ما جرى فى لوكسمبرج فقد شهدت هذه المدينة الصغيرة الجميلة اجتماعا حاسما لوزراءالداخلية والعدل بالإتحاد الأوروبى فما الذى دار فى الإجتماع ؟! تعالوا نفهم ونتفرج ونعرف أنهم يطبقون المعايير المزدوجة علينا فى كل شىء..كان للإجتماع هدف واضح محدد ومعلن هو الحد من سفر شباب أوروبا وفتياتها للإلتحاق بتنظيم داعش فى سوريا والعراق.. فقد اكتشفت أوروبا أن عدد الذين هربوا من بيوتهم وعائلاتهم ووظائفهم بات يزيد على الثلاثة ألاف شاب وفتاة.... قررت أن أتابع باهتمام وفضول ما الذى سيفعلة وزراء داخلية وعدل أوروبا فى ذلك الإجتماع وكيف سيمنعون شبابهم وفتياتهم من السفر للإلتحاق بداعش..

فى البداية قرر هؤلاء الوزراء دعوة شركات عالمية لحضور هذا الإجتماع.. فجاءت جوجل وفيس بوك وتويتر ومايكروسوفت.. وتمت مناقشة كل مواد الدعاية التى يبثها تنظيم داعش عبر نوافذ تلك الشركات وقالت سيسيليا بالمستروم.. المسئولة عن الأمن والشئون الداخلية بالإتحاد الأوروبى.. إن الإتحاد طلب مساعدة هذه الشركات فى البحث عن أفضل الحلول للتصدى لدعاية داعش.. وقال جيل كيرشوف.. المسئول فى الإتحاد عن مواجهة الإرهاب.. إنهم طلبوا من الشركات منع بث كثير من دعاية داعش عبر جوجل وفيس بوك وتويتر.. وبالتحديد مشاهد الذبح والدماء والرؤوس.. وقال وزراء كثيرون سواء للداخلية أو العدل بعد ذلك الإجتماع إنهم سيستأنفون مفاوضاتهم مع تلك الشركات بشكل يسمح لأوروبا بإزالة وحذف أى محتوى يتضمن صورا دموية أو تحريضا على العنف والتشدد وتشجيع القتل والإرهاب.. وقال الوزراء أيضا إنهم يفضلون التفاوض أولا مع رؤساء تلك الشركات وأن يجرى هذا الأمر باقتناع الجميع وموافقتهم وتفهمهم فإن لم يحدث ذلك فسيقرر وزراء أوروبا دفاعا عن مصالحها وأمنها وسلامة شبابها وفتياتها فرض قانون يلزم هذة الشركات بما تريده اوروبا..

وهنا أريد أن أتوقف فليلا بعيدا عن هذا الإجتماع.. وأتساءل عن كم وحجم الصرخات التى كنا سنسمعها هنا فى مصر لو أن وزير الداخلية والعدل اجتمعا مثلا وقررا التفاوض مع مسئولى تلك الشركات الكبرى حول أى محتوى يتم بثه عبر نوافذها.. كان الناشطون سيجرون عراة فى الشوارع يتساءلون عن الحرية.. الديموقراطية.. الأمان.. النزاهة.. الحقوق.. وبعض هؤلاء بعد أن يستكمل عريه سيبدأ فى الصراخ مجددا بأن هذا هو حكم العسكر وهذه هى الديموقراطية على طريقة العسكر.. وسنرى المسيرات الغاضبة والرافضة لهذا التدخل وانتهاك الخصوصية والحريات الشخصية.. وستشهد شبانا وفتيات عبر الإنترنت يخوضون حربا شعواء ضد القهر والديكتاتورية والسلطة الامنية والإسراف فى الصراخ والبكاء والحزن والإحتجاج وممارسة كل ما هو متاح من شتائم ولعنات.. ويمنحنى هؤلاء إحساسا حادا بأن مصر هى أكثر دول العالم دفاعا عن الحرية والديموقراطية.. وهى واحة أمان الفرد وسلامته الشخصية.. حيث لا يمكن لرجل شرطة أن يستوقفه أو يمنعه من دخول أى مبنى أو جامعة أو ملعب حاملا سلاحا أو نيرانا.. ولا يمكن لأى سلطة أن تراقب وتمنع وتوقف ما ترى أنه يمثل خطرا وتهديدا..

وقد يغضب منى الكثيرون بسبب هذا الكلام.. ويرون أننى أدعو للديكتاتورية والقمع والتدخل الأمنى فى حرية كل شخص وحياته.. ولهذا أريد أن أسألهم عن رأيهم فى إجتماع لوكسمبورج وتعليقاتهم على ما قاله وطالب به وزراء داخلية وعدل أوروبا.. أوروبا وليست أفريقيا أو اّسيا.. إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وسويسرا والسويد وهولندا والدنمارك وبلجيكا وليست جزر أو مستعمرات متخلفة بدائية ومتوحشة مسكونة بالقمع والمظالم.. وقد قال وزراء أوروبا ذلك وتحدثوا عنه بصوت عال وهددوا بأنه فى حال رفض الشركات العالمية الإستجابة لهم فسيقررون ذلك بأمر القانون.. ولم يجر ذلك سرا ولم أعلم أنا بما دار فى ذلك الإجتماع عن طريق أصدقاء سريين حاضريين أو حكى لى أحد هؤلاء الوزراء عما جرى.. فالكلام كله منشور فى كل الصحف والمواقع الإخبارية الأوروبية والأمريكية.. وأظن لو أن الكلام فيه ما يخالف قواعد الديموقراطية وحرية الأفراد وحقوقهم.. لكانت منظمات حقوق الإنسان فى أوروبا والعالم تحركت وغضبت ورفضت وأدانت.. أو كان الشباب والفتيات أنفسهم فى أوروبا ثاروا وصرخوا رفضا واحتجاجا.. لكن لم يعترض أو يرفض أى أحد.. فهناك اعتبارات للأمن القومى فوق أى حرية وتسبق خصوصية أى أحد.. وحين تتعارض مصالح مجتمع مع حرية اي فرد فالمجتمع يبقي اهم من الفرد..وسلامة الجميع وامنهم تسبق حرية الإنترنت أو خصوصيته.. ولست أقول ذلك الان داعيا لأى شىء أو قاصدا أى شىء غير الذى أقوله بالضبط.. وكل ما أريده هو أن يفكر الناس وأن يتساءلوا أيضا.. أن يفكروا ويعرفوا ويراجعوا أنفسهم فى كثير جدا مما يقولونه أو يقال لهم..

(شركات الطيران أيضا)

بل أن وزراء داخلية وعدل أوروبا.. وفى نفس الإجتماع أيضا.. قرروا الإتـفاق مع شركات الطيران الأوروبية وغير الأوروبية لمنع سفر أى شاب أو فتاة الى بلدان معينة.. مثل تركيا.. بدون دواع واضحة وذلك للحد من سفر هؤلاء الشبان والفتيات للإلتحاق بداعش.. ومن جديد لم يغضب أحد ويعتبر ذلك انتهاكا لقوانين ودساتير أوروبا التى تصون حرية السفر والتنقل والعيش لأى إنسان.. بل إن الإجتماع الوزارى الأوروبى أعلن أيضا.. بمنتهى الوضوح والتأكيد.. أن بلدان أوروبا باتت تعرف من الذى سافر من شبابها وفتياتها الى سوريا والعراق.. وستتم مراقبة هؤلاء فور عودتهم الى بلدانهم وقد يجرى اعتقالهم ايضا إن بدا أنهم متمسكون بارائهم المتطرفة وينوون نقل هذا التطرف الى مجتمعاتهم الأوروبية.. ويجرى ذلك كله بينما الناس هنا فى مصر لا يزالون يصرخون معتبرين أن اشتراط إبراز البطاقة الجامعية للسماح لأى طالب أو طالبة بدخول كلياتهم بمثابة انتهاك للحرية وتضييع للحقوق وغياب للديموقراطية.. ويقال فى ذلك كلام حماسى وعاطفى صارخ وشاعرى ورومانسى عن الحرية.. وكأن شباب أوروبا وفتياتها لا يملكون نفس الحق فى تلك الحرية والديموقراطية أو كأن بلدان أوروبا باتت مجرد ديكتاتوريات عسكرية يجرى حكمها بالحديد والنار.. ويبدأ الهجوم المنظم على شركة " فالكون " للأمن باعتبارها عدوة الديموقراطية وأداة العسكر لقطع الألسنة وانتهاك قدسية الحرم الجامعى..

والمأساة هى إعلامنا الذى يسكت عجزا أمام كل ذلك وكأنه ليس لديه ما يقوله.. مع أن هذا الإعلام يستطيع دون أن يتكلم أن يكتفى فقط بنقل عشرات الصور التى تؤكد انه لا شىء فى أوروبا والولايات المتحدة اسمه حرم جامعى.. والقانون الذى يجرى تطبيقه فى الشارع يجرى فى نفس الوقت تطبيقه فى أى جامعة.. إعلام لم يكلف نفسه حتى عناء متابعة هذا الإجتماع الوزارى الأوروبى ونقل ما دار فيه لعموم المصريين ولو من باب التحريض على التفكير والتأمل ومراجعة النفس..

وأنا أدعوك الان ألا تبقى أو تكون مجرد تمثال صامت متحجر ولا يفكر ولا يتغير.. أدعوك لأن تعيش حياتك فى حرية طالما لا تؤذى أحدا بتلك الحرية.. وأنك لست مضطرا لأن تردد نفس الكلمات وتخضع لنفس الأفكار القديمة.. فطالما أنت على قيد الحياة.. يبقى من حقك أن تعاود التفكير فى كل شىء وكل أحد.. يبقى من حقك أن تسأل وتعرف وتفهم وتتغير وتقبل وترفض وأن تعيش أيضا.

&