قصة الكون تمتد على مدى 13.8 مليار سنة لكنها باتت معروفة من قبل البشرية منذ بضعة آلاف من السنين، منذ أن بدأ الإنسان البدائي ينظر إلى السماء ويفكر ويطرح على نفسه أسئلة ويبحث عن إجابات. تأمل فيها الفلاسفة والأنبياء والأديان الوضعية والسماوية لكنهم لم يخرجوا سوى بمجموعة من النصوص الخرافية والأساطير والتصورات الغيبية. ثم جاء دور العلم ليدلي بدلوه ويروي لنا حكاية الكون المرئي بمقاربة علمية لكنها نسبية ونظرية.

كانت الذروة قد تبلورت خلال القرن العشرين المنصرم والانطلاقة الجديدة قد بدأت خلال العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين. ولقد اهتم علم الكون خلال 2500 سنة بوصف بنية وهيكلية وهندسة وشكل الكون المرئي، وتبين للجميع إنه، من أجل فهم هذه البنية والهيكلية، لا بد من وضع الكون في سياق تاريخ وتطور أحداث من البداية إلى المستقبل البعيد الذي سيتحدد فيه مصير هذا الكون، بعبارة أخرى علينا أن نروي سفر التكوين لهذا الكون المرئي أو المنظور من خلال التعاطي مع النظريات الكونية والأطروحات النظرية التي تشكلت على مر الزمن.

تحددت مفردات علم الكونيات الحديث مع بدايات القرن العشرين المنصرم انطلاقاً من القطيعة المعرفية الجوهرية التي حدثت مع التصور القديم للكون المرئي، وبزوغ مفاهيم جديدة متزامنة مع ظهور نظرية النسبية الخاصة والعامة لآينشتين، والميكانيك الكمومي. كانت نظرية النسبية العامة la relativité générale التي بلورها آينشتين بين 1915 و 1919، هي التي سمحت لنا بالتعاطي مع مشكلة تطور الكون بمجمله. ولقد اخبرتنا هذه النظرية أن المكان والزمان ليستا مجرد وعاء يحتوي المادة والطاقة بداخله. فالمادة والطاقة، أو بالأحرى المادة/الطاقة هما اللتان تتحكمان بالزمان والمكان وتمليان على المكان كيفية التحدب أو الإنحناء وعلى الزمان كيفية التسارع والتباطؤ. وبالمقابل يقوم الزمان والمكان بالتأثير على المادة والطاقة ويمليان عليهما كيفية التحرك والتفاعل. ففي الإنحناء أو التحدب الموقعي أو المحلي للمكان الذي تخلقه الكتلة، تتحرك وتتفاعل كتل أخرى وإشعاعات ضوئية سوف تسلك مسارات، لم تعد على شكل خطوط مستقيمة بالمعني الإقليدي، بل على أنماط جيوديزية géodésiques، أي في مسارات يمكن أن تكون ملتوية ومنحنية أو محدبة.

إن خصائص الزمكان الآينشتيني والحركة، ترتبط بالتواجد الموضعي أو المحلي للمادة والطاقة من خلال معادلات رياضية معقدة. لقد طبق آينشتين بنفسه هذه المعادلات، ومن ثم طبقها علماء آخرون من أمثال فريدمان ولوميتر في مجال محاولة فهم التطور الكوني بمجمله. ولقد اكتشف هؤلاء العلماء بأن تلك المعادلات التي تبدو صعبة ومعقدة، يمكن أن تكون في غاية السهولة لو افترضنا أن المكان الكوني كان متجانساً ومتسقاً أي موحد ومتساوي الخواص في جميع الجهات isotrope، أي يمتلك نفس الخصائص في كل مكان وفي كل اتجاه وكذلك لو حددنا زمناً متجانساً يسري في هذا المكان. عندا ذلك بوسعنا وصف الكون بمعيارين أو ثابتين: الأول هو المعيار أو الثابت المسمى المستوى الزمني paramètre d’échelle ويرمز له بــ (t ) وهو الذي يوسم المسافة بين المجرات، ويتنوع مع مرور الوقت أو مع جريان الزمن، والثاني وهو المعروف بمعيار أو ثابت التحدب أو الإنحناء paramètre de courbure ويرمز له بــ (k) وهو الذي يحدد المجال الهندسي الذي نتواجد فيه ويمكنه أن يأخذ فقط القيم الثلاثة التالية: 1-، 0، 1+، حسب ما إذا كانت تلك الصيغة الهندسية دائرية أو مسطحة أو زائدية المقطع على نحو متسم بالغلوhyperbolique.

كما اتضح للعلماء من خلال دراسة وتحليل وتطبيق معادلات النسبية العامة أن الكون في حالة اتساع وإن قياس أو حساب هذا التوسع يتم من خلال تجربة بسيطة تتلخص في مراقبة طيف الضوء الذي تبثه النجوم وغازات المجرات البعيدة. فلقد لاحظ العلماء أن طول الموجة المرصودة للضوء أكبر من طول موجة الضوء المبثوث عند انطلاقه من المصدر، أي النجوم والمجرات، وهو ينزاح نحو اللون الأحمر بسبب التوسع وهو ما يعرف فيزيائيا بــ redshift ويرمز له بــ ( z ) وإن هذا الاختلاف في أطوال الموجات الذي يعطيه المعيار أو الثابت ( z ) هو الذي يعلمنا بالعلاقة بين معدل أو ثابت المستوى paramètre d’échelle للكون المرئي الآن وماكان عليه الكون في لحظة انطلاق الضوء منه.

وما نشاهده ما هو إلا تفاعل الفوتونات الضوئية التي تبثها المجرة مع حقل أو مجال الثقالة أو الجاذبية الكونية. فلو كان الــ redshift أو ( z ) صغيراً يمكننا القول أن المقصود هنا هو تأثير دوبلر effet Doppler المألوف في حياتنا اليومية من خلال تلقينا لنوعية الأصوات الصادرة عن القطارات أو السيارات في حالة اقترابها منا أو ابتعادها عنا وهي الظاهرة التي تحدث مع كل أنواع الموجات الصوتية منها أو الضوئية، فكل مجرة أو أي كائن فيها، يرى أن باقي المجرات تبتعد عنه. فنحن لسنا في مركز الكون بل احد المراكز التي لا تعد ولا تحصى للكون لأن كل نقطة فيه تبدو كما لو كانت هي المركز للتوسع.

كان العالم هابل Hubble هو الذي اكتشف التوسع الكوني ووضع له قانوناً مع العالم Humason هيوماسون في نهاية سنة 1920 والذي تختصره المعادلة التالية v=Ho.D وبموجبه تحدد قياسات المسافات والسرعات وبالتالي بموجبه فإن كل نقطة هي مركز للتوسع. وبتطبيق معادلات فريدمان ـ لوميتر بهذا الخصوص والمتعلقة بتطبيقات معادلات آينشتين ذاتها يثبت لنا أن المادة تكبح توسع الكون بينما الطاقة السوداء أو الداكنة أو المعتمة هي التي تسهم في توسعه.

كشفت لنا الكوسمولوجيا الحديثة العلاقة العضوية المترابطة بين الزمان والمكان والتي حددها آينشتين بمفهوم الزمكان.فالضوء يسير بسرعة محددة وثابتة هي 300000 كلم في الثانية وهي أقصى سرعة يمكن إن تبلغها المادة في تنقلها مما يعني أننا كلما نظرنا في البعد العميق للكون المرئي كلما رأينا ماضي هذا الكون. إن محدودية سرعة الضوء تمنعنا من الوصول إلى الفضاءات البعيدة للكون المرئي في حين تسمح لنا بمعرفة الماضي السحيق للكون المرئي وهي مفارقة جميلة فلو سار الضوء بسرعة لا متناهية فسوف لن يكون بوسعنا أن نشاهد على نحو مباشر ماضي الكون، إلى جانب ما يمكن أن تقوم به السرعة اللامتناهية للضوء من تأثيرات وتبعات وعواقب على باقي قوانين الفيزياء.

وبفضل هذه الهندسة المكانية للكون المرئي، فإننا كلما نظرنا للمجرات البعيدة جداً على تخوم الكون المرئي، كلما اقتربنا من ماضي الكون وعلى نحو أدق، كلما اتجهنا نحو لحظة الفرادة الأولية الأساسية أو التأسيسية singularité initiale في اللحظة صفر t=0 وهذا الحد هو المعروف فيزيائيا بالأفق الكوني L’horizon cosmique، كلما اقتربنا من لغز الأصل، الذي لم يفك رموزه أحد بعد. ومن المؤكد أن ما وراء هذا الأفق الكوني هناك مجرات لامتناهية العدد لكنها عصية على المشاهدة والرصد لأن الضوء الصدر عنها ليس لديه الوقت الكافي لكي يصل إلينا. وفي كل الأحوال مهما توغلنا في الماضي الكوني فلن نصل أبداً مع الإشعاعات الكهرومغناطيسية لكي نشاهد اللحظة صفر t=0 لأننا سنصطدم بالحاجز الذي يفصل بين اللحظة التي أصبح فيها الكون شفافاً واللحظة التي كان فيها معتما وغاية في الكثافة والسخونة والعماء أو الشواش بحيث لايمكن لأي ضوء أن ينفذ منه.

وهكذا نستطيع القول أن الكون محدود بالنسبة لنا وإن حدوده لا تتعدى الخمسة عشر مليار سنة وهي التي تضعه في إطار وصف هندسي مكاني وكذلك في ظرف تاريخي محصور بين نقطتين هما: الأولى وتتعلق بأصله في لحظة الصفر t=0 المعروفة بالفرادة الكونية singularité cosmologique والثانية وتتعلق بمصيره ومستقبله. وهناك بالطبع ماقبل الفرادة أي قبل البغ بانغ وما بعد الحد النهائي للمستقبل المفترض للكون وهي مفاهيم تعالجها الفيزياء الحديثة الثورية التي تتجاوز نسبية آينشتين وميكانيك الكموم الكوانتوم، ويسميها بعض العلماء بالميتافيزيقيا العلمية. ولكي نصف الكون في حالته البدئية لا بد من اللجوء إلى قوانين نيوتن وآينشتين في الثقالة أو الجاذبية الكونية والحال أنها تغدو معطلة، هي وباقي القوانين الفيزيائية الجوهرية الثلاثة الأخرى، في لحظة الصفر أو الفرادة، وبالتالي سنحتاج لنظرية جديدة في الثقالة الكمومية أو نظرية كوانتية أو كمومية للجاذبية أو الثقالة théorie quantique de la gravitation والتي لم نتوصل إليها بعد.

تبدأ معلوماتنا العلمية الدقيقة عن الكون المرئي بعد زمن بلانك وهو 10-43 من الثانية بعد لحظة الفرادة الأولية والأساسية والتي تدور حولها تساؤلات عويصة وعلامات استفهام كثيرة. ثم يجري الزمن وتأتي لحظة التضخم المفاجيء في 10 -35 من الثانية بعد البغ بانغ الانفجار العظيم وفي الدقيقة الثالثة من عمر الكون المرئي تنتج التفاعلات النووية الأولية ويتكون الدوتريوم والهليوم 3 والهليوم 4 والليثيوم 7 وذلك من بروتونات ونيوترونات موجود في ذلك الحساء الساخن. وفي الــ 3000 الثلاثة آلاف سنة التالية لم تعد الإشعاعات هي الطاغية على كثافة طاقة الكون بل المادة التي تتحرك بسرعة أقل بكثير من سرعة الضوء. وفي الــ 300000 الثلاثمائة سنة التالية من عمر الكون أصبح الكون شفافاً بعد أن كان معتماً. وكان شعاع الخلفية الكونية الماكروية المنتشر le fond diffus cosmique هو آخر ضوء يبثه الكون بعد ولادته مباشرة بعد ان اجتزنا مرحلة يسميها العلماء العمر المعتم أو الداكن للكون بدون أية إشعاعات أو نور أو ضوء، وبعدها تحدث عملية القدح للكون عند انهيار الغاز الكوني على نفسه مؤدياً إلى ولادة أول النجوم بعد بضعة عشرات الملايين من حدوث الانفجار العظيم البغ بانغ. ومن ثم تشكلت المجرات من تجمعات النجوم والكوازارات أو السدم أو حشود المجرات والحشود الفائقة من المجرات amas et super-amas des galaxies حتى وقتنا الحاضر.

علماء الفيزياء النظرية بحاجة لفرضية التضخم لتفسير حالة الاتساق والتناسب أو التجانس القصوى homogénéité وحالة تساوي الخواص في جميع الجهات isotropie وشبه التسطح في شكل الكون. ولقد اعتقد العلماء أننا نعيش في كون منظم ومنتظم نسبياً والتي أدت بعض التخلخلات واللاانتظام فيه إلى ولادة مجرات يمكننا رصدها. واقترض العلماء أن أي قطعة من الكون، لا على التحديد، متصلة سببياً بالكون البدئي الأولي Univers primordiale حيث تكون كل الجسيمات الأولية فيها قد تبادلت المعلومات فيما بينها ومن ثم دخلت في حالة توسع مفاجيء وسريع هائل سمي بالتضخم حيث تمدد الكون بنسبة 1030، أي مائة مليار المليار المليار مرة في جزء من مليار من الثانية.

وكانت الانتفاخة الناجمة عن التضخم مجانسة لأن كل المناطق متصلة سببياً منذ البداية أما التخلخلات الميكروسكوبية في الكثافة الناتجة بفعل الظواهر الفيزيائية الكوانتية أو الكمومية المساة التقلبات الكوانتية، فقد تمددت إلى أحجام ماكروسكوبية وانهارت على نفسها تحت وطأة ثقالتها مؤدية إلى ولادة المجرات. فالتضخم يتيح في آن واحد، تفسير الانتظام الشامل للكون والخلل واللاانتظام الموضعي. ومن ثم أعقب التضخم حالة من التوسع المنتظم وغير المتسارع. بقي أن نعرف ما هي الآلية المسؤولة عن هذا التضخم الهائل والمفاجيء للكون البدئي. علماء الفلك وعلماء الكونيات وعلماء فيزياء الجسيمات يتحدثون عن ظاهرة سميت بــ " الفراغ الزائف faux vide " ناجم عن وجود حقل مادي خاص جداً من خصائصه أنه لديه ضغط سلبي، فالمكان يدفع المكان وكلما دفع المكان المكان كلما تكون مكان أكبر أو المزيد من المكان لذلك كان التضخم. وبعد التضخم حصل فراغ حقيقي حيث كان الضغط إيجابياً لكنه مهمل وتم كبح التضخم بفعل تواجد المادة. لذلك أعتبر التضخم مفهوم قبل أن يكون نظرية متكاملة ومتينة ولقد تم اختبار صحة هذا المفهوم بفضل المشاهدات الفلكية بواسطة التلسكوبات الفضائية المتقدمة من نوعية تلسكوب بلانك.

يتبع