هل تحتاج داعش الى ثلاثين سنة من الحرب كما يرى وزير الدفاع الامريكي السابق ليون بانيتا؟!
سقف زمني صادم، ويبدو مبالغا به، اياد علاوي نائب الرئيس العراقي استخدم وصف "تضخيم يرمي لاهداف أخرى" على التصريحات الغربية باستمرار الحرب لسنوات عديدة، واظنه مصيبا في الحديث عن اهداف أخرى.

سيُفسر الامر بالنفط والموقع الاستراتيجي والسياسات الامبريالية وامن اسرائيل، التفسير نفسه الذي نكرره مرارا، وسيقال ان الهدف هو "الشرق الاوسط الجديد" المقسم الى دويلات مذهبية وقومية صغيرة... تفسيرات متوقعة، وبعضها صحيح، لكن ذلك متوفر دون وجود حشد دولي، والمنطقة خاضعة للسياسات الغربية منذ مطلع القرن الماضي، وكل ما فيها لا يوحي بأي امكانية للتحرر من ذلك في المدى المنظور.

الرغبة بالسيطرة سبب وجيه دائما، لأنا لا نتحدث عن دول تعتمد سياسات اخلاقية، ولا وجود لهكذا دول في التاريخ، لكن الحرب لسنوات طويلة ربما تكون مخاطرة غير محسوبة لسيطرة مستقرة، الا ان يتوفر هدف ابعد من سيطرة سياسية واقتصادية لهذه الحرب.

ما تتيحه الحرب الطويلة مرتبط بالصراع الحضاري الذي انتقل الغرب اليه بعد انهيار المعسكر الشرقي وانفراد النموذج الامريكي بحكم العالم وثقافته في ظل ثورة الاتصالات وجميع وسائل العولمة. لذا، الهدف ليس داعش او النظام السوري فقط، انما الخوف من النسخة الاسلامية المتطرفة بكل تجلياتها وخلفياتها ايضا، فالحرب ذات السنوات الطويلة لن تكون ضد هذا التنظيم، بل ستشمل طموحات عميقة لدى ورثة الخلافة الاسلامية بالسيطرة على العالم، وهو جزء مهم من اجندة الصراع بين الحضارات او الثقافات.

مثلا، التجربة الغربية لا تخشى ثقافياً من الصين، ولا من الدين الهندي "البوذية" الذي يعد اهم بديل فردي لدى الكثير من الغربيين، انما تخشى الرغبة بالسيطرة ثقافيا على العالم التي تسكن الذهنية الاسلامية، باعتبارها ايضا رؤية عالمية تستفيد من وسائل العولمة. وهذه النسخة من الاسلام، النسخة التي تعتمد "الدين العالمي الموجه لشؤون الدنيا والاخرة"، بالتأكيد تهدد النموذج الغربي في السياسة والمعرفة والاقتصاد والمجتمع... لهذا ان داعش هي العدو الاول، او المبرر الاساسي للتدخل لغرض تفكيك الحاضنة الفكرية له، والمتمثلة بالأيديولوجيا الشمولية، وتحويلها الى رؤية فردية او دين عبادي... وهذا ما يفسر الكثير من التصريحات الغربية التي تدافع عن الاسلام ضد الاسلام، وترصد مقولات التعايش وقبول الاخر في القران بدل تلك المتصلة بالجهاد ومنهجية الدعوة.

بعضنا اليوم يعتمد مفردة ان داعش تنظيم خلقته الولايات المتحدة، كما حصل مع الافغان العرب في حرب السوفيات، رأي لا يميز بين الصنيعة والاستثمار، فالغرب لم يصنع داعش ولا الافغان العرب ولا طالبان والقاعدة، انما استثمرها وسهل عملية نشوئها او نضوجها، معتمدا على رغبة لدى بعض الشعوب الاسلامية بذلك، او على تناقضات خلّاقة بين البلدان المسلمة.

سيقال ان حلفاء امريكا هم من صنع داعش، ويُقصد بذلك تركيا، وان هذا يعني توّرط الدولة العظمى، بينما الاصح انها سمحت للرغبة التركية بمنافسة التمدد الايراني لاستثمار ذلك، والمعالجات لن تكون على الطريقة التركية ولا الايرانية ولا العربية، انما على الطريقة الامريكية... حرب تورط فيها الجميع، جميع من يمتلكون فضاء التطرف، وسيكونون هدفا فيها بشكل واخر، ليس سياسيا انما في اطار معالجات جذرية تعتمد القوة العسكرية والقرارات الاممية الملزمة لمنابع "الرؤية المتطرفة".

الاتراك يبدون اليوم اكثر ارباكا من السابق، فسلاح داعش لموازنة اسلحة ايران، ليس موثوقا، وهو ايضا مدخل مهم للغرب كي يمارس تأثيراته على تركيا واستخدامها في الحرب ضد التطرف وضد فكرة الخلافة الاخوانية التي تسكن اجندة الاردوغانية "المعتدلة ظاهريا"، كونها انتاج لمزيد من التطرف. ايران الان، في ذروة صمتها تجاه ما يجري، المخاوف كبيرة، لأنها تدرك ان الاهداف قد تشمل اذرعها وتقلّم مخالبها. كما ان خطاب تصدير الثورة المعتمد في نظام ولاية الفقيه، كان مساهمة مهمة في صعود التطرف. السعودية تعي ان النفط والتحالف مع الولايات المتحدة ليس مفيدا الى ما لانهاية، فشروط اللعبة قد تتغير وبيادقها ايضا، كما يقول كيسنجر " ليس لأمريكا أصدقاء دائمون، ولا اعداء دائمون، بل عندها مصالح دائمة". خصوصا وان ارض الحرمين هي موطن الفكر الجهادي بنسخته السلفية الراهنة.

فهذه الحشود لن تشن حرباً عسكرية فقط، انما حرب قرارات دولية وخطوات اعلامية وثقافية ستمس السيادة الوطنية المفترضة للبلدان، وتجعل منها منسجمة مع الرؤية الغربية، تشمل الثقافات ومناهج التربية وحتى تمس ائمة المساجد... وليس بعيدا عن ذلك؛ المجتمعات المسلمة الموجودة في اوربا وعموم البلدان الغربية، والآخذة بالاتساع عددا وتأثيرا، والتطرف الجهادي والنموذج الدعوي، يدفع هذه المجتمعات لتصنع تهديدا حقيقيا، وحضور المقاتلين الغربيين كما يمثل عنوانا لهذا التهديد، فهو كذلك مدخل للمعالجة، اذ يتم الان تدعيم الخطاب المعتدل داخل تلك المجتمعات ووضع الاسر امام واقع جديد يتمثل بأن ابناءهم سيكونون بناء على هذه العقيدة، وقودا للحرب، ما سيدفع الجميع لإعادة النظر بالمضامين المتطرفة بشكل تدريجي.
&
الحرب ضد داعش اقرب لنموذج الحرب الباردة منها للحرب العالمية الثانية، حرب تستخدم فيها الوسائل المتعددة وليس السلاح فقط، وتعتمد على زمن طويل وليس سرعة الحسم، لأنها ليست حرب ضد ايديولوجيا "قومية" انما ضد ايديولوجيا عقائدية لا تقف عند جنس او لون.

لذا أصدّق الاسلاميين اذ يقولون: ان الغرب يستهدف الاسلاميين او الاسلام. الا أن ما لا يراه الاسلام السياسي والجهادي والدعوي بشطريه السني والشيعي، انه خلق باستمرار مبررات هذه الحرب، كان ولا يزال يقدم قراءة تهدد الاخر، تؤمن بنهايته الكاملة والسيطرة عليه، وفرض هذا النموذج الديني عليه. فهو لم يحم الاسلام، بل جعله هدفا لعداء الاخرين. حتى الان يؤمن الكثير من الاسلاميين بعقيدة تحويل الاسلام الى دين يسيطر على الكرة الارضية، وكل تيار منهم لديه وسائله الخاصة للبحث عن ذلك، والقراءة العقائدية السائدة تعتمد علنا او سرا الاكراه الديني وفرض الجزية ونظام الرق وكل النظم والعلائق الاجتماعية التي تنتمي لقرون ماضية.

كل هذا جعل الكثير من المسلمين المعتدلين محايدين في هذه المعركة، لإدراكهم انها بين عدوين، احدهما يريد فرض سطوته الاقتصادية والسياسية ونموذجه الثقافي، والاخر يبحث عن استحضار الماضي واعادة عقارب الساعة الى لحظات لا تواجه الجماعات بالعنف فقط، بل حتى خصوصية الافراد المغايرين، قلّت المغايرة ام كثرت. غير أن صعود الجهادية بهذه الطريقة الفجة والقاسية، تدفع المعتدلين لترك حيادهم، وتصطف ضد هذا النموذج، والبحث عن خيارات اخرى تفكك اسباب ظهوره.
&
ان النموذج الاسلامي لم يقدم شكلا مختلفا عن الرغبة بثقافة احادية لا تقبل حتى التفكير الخاص المحدود، ولم يعتمد ابدا على التعددية، انما هو على شاكلة النموذج الشيوعي القديم، احادي، قمعي، جامد... يجعل المجتمعات التي تعيشه مختنقة منه، وتدريجيا ترفضه، وهذا ما يدركه الغربيون ويعملون على توظيفه اليوم في هذه الحرب. حيث، يصرّ كثير منا على التعامل مع الموضوع وكأنه داعش فقط. الا أن سؤال "كيف ظهرت داعش ولماذا؟"، سيكون مؤثرا جدا، واجابة، "صنعه الغرب كي يسيطر علينا او يكرّهنا بديننا"، ستكون غير كافية.
&