لم يكن المنطق يومًا من شيم العرب، فقد انشغلت بالشعر وتصنيف الغزل بين عذري وإيباحي، وبالمديح والهجاء، ونسيت المنطق. ومن درس في تاريخ العلوم عند العرب أدرك أن جل الفلاسفة "العرب" المتأبطين منطقًا فيهم عرق غير عربي، شعوبي تحديدًا. المهم... لم يكن المنطق يومًا من شيم العرب، ولن يكون. فالمنطقة العربية اليوم قامت ولا ينتظر قعودها قريبًا، أو قل قامت إلى التحارب ولا ينتظر قعودها قريبًا.

ما زال دعاة الوحدوية والأمة العربية والوطن العربي، وغيرها من ألفاظ ممجوجة، يناقضون المنطق، أو الـ "كومون سينس"، ويستمرون في حلم حق العودة إلى فلسطين، وتحرير كامل التراب الفلسطيني السليب، بينما المنطق يقضي بأن يقبلوا اليوم وبحماسة بما رفضوه دائمًا، حل الدولتين، العربية واليهودية، على أرض فلسطين التاريخية. فلو رضي الفلسطينيون، ومن ورائهم أرباب الممانعة من صخرة الصمود إلى قلب العروبة النابض، بقرار مجلس الأمن رقم 242 بعد نكسة 1967، وسيطرة إسرائيل على باقي الأراضي الفلسطينية التي لم تسيطر عليها في نكبة 1948، لربما كان الوضع أقل تعقيدًا مما هو عليه اليوم، إن لم نقل أفضل. فلا تشكلت جبهة الرفض في العام 1974، ولا كانت الحرب اللبنانية استعرت في العام 1975 على قاعدة "الطريق إلى القدس تمر بجونية"، ولا كانت النزعات الدينية الأصولية تمادت حتى أعادتنا إلى عصر الظلمات.

ليس هذا من بنات الخيال. فمن يقطع عصر ظهور الخليفة أبو بكر البغدادي عن السياق التاريخي للحرب العربية الاسرائيلية إنما يفسر الماء بعد الجهد بالماء، كمن يقطع عصر ظهور المهدي المنتظر عن نزول الروم بمرج دابق، اي الغزو الأجنبي الذي يحضر له، كما يسوق السنة والشيعة معًا اليوم في سوريا.&

فالهزائم المتكررة التي أوقعتها أنظمة الصمود والتصدي العربية بشعوبها، وإفلاس الايديولوجيات اليسارية، التي كان جزءًا من نضالها الوقوفُ وراء كارلوس الارهابي في تفجيرات باريس أو خطف الطائرات، ثم ترك الجنود في الجولان لمصيرهم والتبجح بعبور القناة وبانتصار تشرين، هذا الافلاس عبّد الطريق أمام كل أنواع الأصوليات، التي بدأها في لبنان، بالرغم من اعتداله، الامام السيد موسى الصدر، والذي تدل الدلائل على أن مؤامرة سورية إيرانية إسرائيلية استخدمت العقيد الليبي المقتول معمر القذافي لقتله.

بدأت الأصولية الحديثة في الشيعة، لأن النظامين المصري والسوري تمكنا بالحديد والنار من وأد الاخوان المسلمين منذ أواخر السبعينيات الماضية، وبشكل شبه نهائي. بدأت الأصوليات الشيعية في لبنان، بعد الثورة الشيعية في إيران وتصدر آية الله الخميني المشهد الإيراني، لأن التماس مع إسرائيل عامل مسرع لنشوء مثل هذه الحركات الجهادية الأصولية. فقام حزب الله، وخلال أعوام استطاع توحيد البندقية الشيعية بحرب ضروس على حركة أمل، التي أسسها الصدر، ثم استطاع توحيد البندقية المقاومة من خلال احتكار حق المقاومة في الجنوب، منحيًا الشيوعيين والقوميين السوريين والبعثيين والاسلاميين السنة.

اليوم، أتى دور السنة. فما يفعله تنظيم الدولة الاسلامية في سوريا وفي العراق ليس إلا توحيدًا للبندقية الأصولية السنية بوجه كل البنادق الأخرى، حتى السنية الأخرى، وبدفع إقليمي من دول مستفيدة من هذا التنظيم، لتعزيز نفوذها في المنطقة، من خلال البوابة السورية والعراقية المتأزمة.&

توحيد هذه البندقية السنية اليوم ليس إلا الخطوة المقابلة، ولو متأخرة، لتوحيد البندقية الشيعية المستمر منذ أربعة عقود أو أكثر.&

ويقابل تمدد تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام، ودق الباب اللبناني بالنار، والباب الأردني بالمبايعة، تمدد إيران الشيعية في اليمن والبحرين والكويت، مع قاعدة لها قوية التسليح والشكيمة في لبنان، حتى تصبح المنطقة بأسرها أمام حل الدولتين، وهو غير حل الدولتين في فلسطين التاريخية.

إنه حل الدولتين، دولة السنة ودولة الشيعة، على كامل يابسة الشرق الأوسط. ومن علامات هذا الحل تردد تركيا في نجدة عين العرب، وعجز غارات التحالف الدولي عن وقف تقدم تنظيم الدولة الاسلامية في المدينة، في تطهير للدولة السنية من شوائبها القومية والدينية، الكردية اليوم واليزيدية بالأمس.&

ليس والوهم الديني السني بقريب من الوهم الديني الشيعي، اليوم على الأقل. فالشيعة تمكنوا، منذ العام 1979، من مأسسة إسلامهم بشكل يعادي العرب والغرب، لكنه لا ينفره منهم. فحتى عندما اتخذ أطفال الحرس الثوري موظفي السفارة الأميركية بطهران رهائن بعد الثورة، لم يذبحوا أيًا منهم.

وحين هاجم النظام الثوري الإيراني أنصار العهد "الشاهاني" البائد، بقي الطغيان في حدود المعقول، خصوصًا في أذهان العرب الذين اعتادوا منسوب طغيان أعلى في بلادهم. هذه المأسسة، ولو اتخذت لنفسها شعار تصدير الثورة ورسم الهلال الشيعي، ساهمت في الاعتياد العالمي على هذا التبدل الدراماتيكي في تحديد المصير الشيعي.

في المقلب السني، الذي تتعدد فيه المدارس الجهادية بين القاعدة وتنظيم الدولة والاخوان المسلمين، فالمأسسة معدومة. أتيحت للاخوان فرصة ذهبية، لم يحلموا بها منذ سيد قطب، حين وصلوا إلى رئاسة جمهورية مصر العربية، على ظهر ثوار 25 يناير، لكنهم اضاعوها بغباء متوارث ومتراكم. فلم يتعلموا من الشيعة بناء الثورة على أنقاض ما سبقها، ولم يقرأوا الصراعات الاقليمية إلا بعين سنية تهوى الانتقام. فذهبت أفراحهم بالرئاسة ادراج الرياح. وبقي للسنة وهم أبو بكر البغدادي، طالما أن القاعدة لم تتبنّ يومًا فكرة إنشاء دولتها الخاصة. وها هو أبو بكر ينفخ في وهمه روحًا، يقتبسها من أرواح آلافٍ يقتلهم من غير رحمة.

لا منطق في كل هذا. لكن سايكس وبيكو، رحمهما الله، كانا يعرفان أن منطقة تؤمها الأقليات المتناقضة لا تعيش طويلًا من دون أن تستعيد أصولها، أي أصوليتها الدينية طبعًا. وهما في هذا سلف صالح، بنى عليه وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر خريطة "مذهبية" لشرق أوسطي جديد، لا يعيش إلا بحياة دويلات أقلية، أكبرها دولتان للسنة وللشيعة، واوسطها دولة لليهود تتميز بقوة ونفوذ على كل الدويلات في المنطقة، واصغرها للأقليات، كالدرزية والمارونية في جبل لبنان، والكردية في مكان ما بين العراق وسوريا وتركيا.

الخريطة جاهزة. ومن يتبع خطوط النار في سوريا يدرك أن اللاعبين بهذه النار يتبعون بكل أمانة وإخلاص الخريطة الكيسنجرية نفسها، التي ظهرت بوادرها الأولى في العام 1974. فما نسف حمص عن بكرة أبيها وتدمير جوامعها إلا لأنها عقبة سنية أمام وصل شيعة البقاع اللبناني بعلويي جبال العلويين في سوريا... إلى غير ذلك من الأمثلة.

تقوم الخريطة إياها على حل الدولتين. فإن تعثر هذا الحل في فلسطين التاريخية، فهو المطروح اليوم وغدًا في المنطقة العربية... إلى أن يتحقق.

&