سواء بقصد وفهم او نتيجة غفلة و لا مبالاة.. فقد اسعدنى جداٌ الا يهتم الكثيرون فى بلدى بفوز الباكستانية مالالا يوسف بجائزة نوبل للسلام. و أظن أن جائزة السلام لهذا العام هى واحدة من غرائب اكاديمية نوبل للسلام و عجائبها وتناقضاتها ايضاٌ.. فبعد مشاورات و اجتماعات و مفاوضات و مفاضلات وقع اختيار أكاديمية نوبل للسلام على مالالا يوسف لتمنحها جائزة هذا العام بمشاركة الهندي كابلاش ساتيارثى.. واذا كان من الممكن فهم الدوافع لمنح هذة الجائزة للهندى كابلاش المدافع عن حقوق الاطفال فى التعلم فان أحداٌ فى العالم كله لا يعرف على وجة الدقة أي سلام جاءت به او اسهمت فى صنعة مالالا يوسف سواء للعالم او حتى داخل باكستان.. فكابلاش هو الرجل الذى حارب عمالة الاطفال فى الهند منذ 1990 وقاوم كل الشركات و المؤسسات و المحال و الرجال الذين يستغلون فقر الاطفال فيمنعونهم من التعليم ليعملوا مقابل لقمة العيش واسس منظمة لهذا الهدف النبيل ونجح بالفعل فى إعادة ثمانين ألأف طفل هندى للمدرسة واستعادتهم طفولتهم الضائعة وأحلامهم الجميلة أيضا.. أما مالالايوسف فقد كانت صبية صغيرة فى باكستان اعتادت أن تكتب عبر مدونتها الخاصة تهاجم حركة طالبان المتشددة فى أفغانستان.. ورفضت مالالا ما تقوم به طالبان بشأن منع الفتيات من التعليم وحرق مدارس البنات وانتقدت مالالا أيضا أسلوب تعامل طالبان مع كل من يختلف معهم فى الرأى.. حتى قررت طالبان قتل هذه الصبية الضغيرة المزعجة ولكنها لم تنجح فى ذلك ولم تقتل رصاصة طالبان مالالا يوسف التى كانت مع زميلاتها فى أتوبيس المدرسة.. وتكفلت الإمارات بعلاج الصبية الجريحة وأرسلت طائرة خاصة لنقلها الى لندن حتى تم علاجها واستعادتها عافيتها.. ومن يومها لم تقم مالالا يوسف بأى شىء إلا حضور حفلات التكريم وتلقى الجوائز المتتالية.. فبعد تلك الحادثة بأقل من سنة.. كانت مالالا تقف بنفسها فى قاعة الأمم المتحدة تحتفل بعيد ميلادها السادس عشر وتطالب الأمم المتحدة وبلدان العالم بمواصلة النضال من أجل حق الأطفال والبنات فى التعليم.. ولا تتسع المساحة هنا لسرد كم الجوائز التى نالتها مالالا يوسف.. فالماكينات الإعلامية الأمريكية التى كانت وقتها فى أوج الحرب على الإرهاب والتطرف فى أفغانستان حيث تنظيم القاعدة وجماعة طالبان.. قررت تقديم مالالا كنموذج لرفض منهجها وسلوكها.. وبقيت مالالا تنتقل من عاصمة الى عاصمة ومن إحتفال الى إحتفال تتسلم جائزة بعد أخرى حتى جاءتها أخيرا جائزة نوبل للسلام دون أن يشير أى أحد الى أى سلام صنعته مالالا يوسف.
&
وكان من التناقضات الرائعة والمثيرة للدهشة والإستغراب أيضا.. أن تحتفل المجلة السياسية العالمية الرصينة.. فورين اّفيرز.. بفوز مالالا يوسف بجائزة نوبل للسلام واعتبرت المجلة السياسية الأولى فى العالم التى يصدرها مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية تلك الجائزة بمثابة شهادة تكريم وتقدير لكل الرافضين لأى نظام دينى ولكل من يقحمون الدين فى السياسة وشئون الحياة وكل من يستندون الى تعاليم دينية من أجل تقييد حرية فكر وتعليم واختيار وحياة.. بينما مالالا يوسف نفسها فى تلك الأثناء كانت تتلقى جائزة جديدة.. بعد نوبل.. من منتدى الأطفال العالمى للسلام فى هولندا.. تقف على المسرح لتتسلم الجائزة من اليمنية توكل كرمان ومثلها ترفع شارة رابعة تضامنا مع الإخوان فى مصر مطالبة بعودتهم للسلطة فى مصر.. فالصبية التى اختارتها الولايات المتحدة رمزا لرفض أى حكم دينى وأى نظام يستند الى أساس دينى وليس ديموقراطيا ومنحتها ألف جائزة لتأكيد هذا المعنى.. وقفت تطالب بعودة الإخوان للحكم مؤيدة لهم ومقتنعة بأنه من حقهم أى شىء مقابل استعادة السلطة التى كانت لهم فى مصر.
&
ولست أريد الإطالة فى هذا الأمر كما أننى لا أقصد التشابه المطلق بين جماعة طالبان فى أفغانستان وجماعة الإخوان فى مصر , فهناك فوارق كثيرة وحقيقية بين الجماعتين.. لكن بينهما شىء وحيدا مشتركا.. هو رفضها أى معارضة.. كل من يعارضهما كافر وشيطان يستحق القتل والإبادة.. كل منهما تصف نفسها بأنها تحكم بأمر السماء ولا تجوز معارضة أى منهما أو الخروج عليها ورفض أساليبها وأفكارها.. ولهذا لم أفهم كيف تفوز بجائزة السلام الكبرى فى العالم فتاة تقدم ألف تحيه ومبرر لكل ما يقوم به الإخوان فى مصر من عنف وإسالة دماء وإيذاء لأبرياء فى كل وأى مكان.. أى سلام تنادى به مالالا يوسف وماهو مفهومها أصلا لكلمة سلام ومعانيه ودلالاته.. ومن الذى قال لها إن إقصاء الإخوان عن السلطة فى مصر يبرر أى شىء وأى دم لإستعادتها مرة أخرى.. من الذى علمها أن فض رابعة العدوية فى القاهرة هو أكبر مذبحة فى تاريخ مصر الحديث.. وهل المفروض أن نصفق الان لمالالا يوسف صاحبة جائزة نوبل للسلام أم نتوقف بكثير جدا من الدهشة والصمت والأسى.
&
وبدلا من كل ذلك.. أود التوقف أمام حكايتين أراهما أهم من الكتابة عن مالالا يوسف وسلامها.. الحكاية الأولى داخل أكاديمية نوبل للسلام نفسها فى العاصمة النرويجية أوسلو فقد صرح لونشتايد مدير أكاديمية نوبل للسلام مؤخرا انه شهد كثيرا من المجاملات والغرائب أيضا.. وأن هناك من فازوا بتلك الجائزة دون استحقاق وهناك فى المقابل كثيرون لم تقترب منهم الجائزة رغم جهودهم المؤكدة فى إقرار السلام العالمى وصناعته.. أما الحكاية الثانية فقد دارت وقائعها فى النرويج.. وهي عن برجيت راينين لاعبة الجودو النرويجية والتى فازت أثناء مشوارها ببطولة أوروبا للجودو.. ولكن تبقى الحكاية الأهم فى حياة برجيت هى التى جرت فى أفغانستان.. فقد فوجئت برجيت بجماعة طالبان تمنع النساء والفتيات الأفغانيات من ممارسة الرياضة.. رفضت دخولهن أى ناد وممارستهن أى لعبة حتى فى أى بيت أو مدرسة.. وقررت برجيت التصدى لذلك.. واستعانت بصديق لها دبلوماسى نرويجى أدخلها العاصمة كابول.. وهناك بدأت برجيت تعطى دروسا للفتيات الصغيرات بشأن اللعبة وضرورة ممارسة الرياضة وحق كل فتاة فى أن تلعب.. وكان من الطبيعى أن تنتبه جماعة طالبان لما تقوم به هذه الغربية النرويجية فى كابول.. وطاردت طالبان برجيت وحاربتها وأخافتها وهددتها دون جدوى.. لم تخف برجيت ولم تستسلم ولم تنسحب أيضا.. لم تعد الى أوسلو طالبا للأمان وهربا من أى مشكلات وتهديدات.. وبعد سنة كاملة.. نجحت برجيت فى إقناع رجال وسيدات كثيرين جدا فى كابول بضرورة السماح لبناتهم بممارسة الرياضة وأن اللعب ليس حراما وليس سلوكا قبيحا مرفوضا.. وأصبح هؤلاء قوة ضاغطة على جماعة طالبان التى رضخت فى النهاية واضطرت لعقد اتفاق مع برجيت نفسها.. وبمقتضى هذا الإتفاق سمحت طالبان لبرجيت بتأسيس أربعة نواد لتعليم الجودو للفتيات فى كابول والأهم من ذلك كان اضطرار طالبان لغض البصر عن ممارسة البنات الأفغانيات للرياضة.. وبعد سنتين عادت برجيت أخيرا الى وطنها باعتبارها النموذج الأقوى والأجمل والأوضح لما تستطيع أن تقوم به الرياضة لتغيير المجتمع.
&
وأعتقد أن ما قامت به برجيت على الأرض.. أهم وأبقى كثيرا مما قامت به مالالا يوسف التى لم تقم بأى شىء فى الحقيقة سوى كتاباتها الرافضة والغاضبة.. فبرجيت غيرت بالفعل مجتمعا وأجبرته على تحدى طالبان ليسمح لبناته بممارسة الرياضة.. لكن برجيت لم ولن تفوز بأى جائزة لأن أحدا لم يهتم بها ممن يجيدون التسويق السياسى لخططهم وخطواتهم.. وأتذكر كلمة شهيرة للأديب الأيرلندى العظيم والشهير جورج برنارد شو حين قال إنه على استعداد لأن يغفر لألفريد نوبل اختراعه للديناميت لكنه لن يغفر له أبدا اختراعه لتلك الجوائز التى تحمل اسمه.. فهى فى أوقات كثيرة كانت تمثل قمة الزيف والخداع.. وفى النهاية.. فازت مالالا يوسف بنوبل للسلام ولا أملك بالطبع حق الإعتراض على ذلك مهما تكن أسبابى وتحفظاتى.. لكننى سعيد بأننا لم نحتفل بهذا الفوز فى مصر ولم نسمع كثيرين يتناسبقون بقصائد الغزل والمديح فيمن يكرمها العالم لصناعة السلام بينما هى أمام الجميع لا تمانع أن تنتثر الدماء وتتطاير أشلاء عشرات الضحايا فقط ليعود الإخوان من جديد الى حكم مصر.
&
أقول ذلك الان تعليقا على فوز مالالا يوسف بجائزة نوبل للسلام.. وسبيقى هذا رأيى مقتنعا به أيا كان الفائز بتلك الجائزة فى أى سنة مقبلة.. ولن تصبح أكاديمية نوبل للسلام مثلا عادلة وحكيمة ورائعة إن قررت العام المقبل أن تهدى جائزتها للرئيس السيسى مثلا.. فلست أحب هذا التناقض أو تغيير المواقف بتغيير الشخوص والحسابات.. وسيبقى كلامى واحدا بصرف النظر عن أى حب وكراهية أو احترام وعدم احترام.. ولست وحدى فى ذلك.. إنما هم كثيرون جدا الذين يتحفظون طوال الوقت على كثير من الفائزين بتلك الجائزة سواء كانت فتاة باكستانية صغيرة أو رئيس حكومة إرهابيا مثل مناحم بيجين أو منظمة حظر الأسلحة الكيماوية التى فازت بالجائزة العام الماضى دون أن يخلو العالم بعد من تلك الأسلحة وتهديداتها ومخاطرها
&
رئيس تحرير جريدة الجمهورية المصرية الاسبق&