قبل مدة أعطاني أحد الاصدقاء مقالاً بالانجليزية لكاتبه عوني فرسخ بعنوان "العرب منذ مائة عام بعد كامبل بانرمان". ملخص المقالة أن رئيس وزراء بريطانيا كامبل شكّل لجنة من الخبراء لدراسة تأمين استمرار مصالح الاستعمار الاوروبي، وخلاصة التقرير أن اللجنة أوصت "بتاسيس حاجز غريب وقوي في الأرض التي تصل بين اسيا وافريقيا العربية". هذه المعلومة أصبحت بدهية في الفكر العربي الحديث، بحيث تم تداولها في كثير من الدراسات السياسية في الوقت الحاضر. لا نريد أن نناقش التآمر الغربي ضد الأمة العربية، فهذا معروف، بل نريد أن نبين أهمية التوثيق الصحيح لمصادر المعلومات التي نستخدمها دون تدقيق وتمحيص. المقولة السابقة استخدمها كثير من المفكرين العرب. فمثلا، يستند اليها العميد الركن د. ياسين سويد في كتابه "مؤامرة الغرب على العرب: محطات في مراحل المؤامرة ومقاومتها" الصادر في بيروت عن المركز العربي للابحاث والتوثيق. كذلك، نجد د. مازن صلاح مطبعاني يستند اليها في بحثه الموسوم "مصدر الخوف: الاسلام أم الغرب؟ والمقدم الى مؤتمر جامعة فيلادلفيا الحادي عشر – ثقافة الخوف.&

والسؤال الذي يطرح نفسه هل هذه الوثيقة وغيرها من الوثائق حقيقية وتاريخية، أي هل يمكن الرجوع في الارشيفات الى اصلها. فثلا، فإن وعد بلفور هو وثيقة تاريخية يمكن الرجوع اليها كحقيقة ثابتة وتصويرها وذكر مكان حفظها، وبالتالي لا يمكن نفيها.&

لقد بحث عن أصل هذه الوثيقة المفكر الفلسطيني د. أنيس الصايغ (والمشهور عن هذا الباحث دقته وأمانته العلمية)، فماذا وجد. في كتابه أنيس الصايغ عن أنيس الصايغ يذكر المعاناة التي تكبدها في البحث عن أصل هذه الوثيقة. فخلال شهر كامل قضاه في التنقيب في مكتبة المتحف البريطاني ودار الوثائق البريطانية وأوراق جامعة كمبردج حيث وجد الكثير عن المؤتمر الامبراطوري 1907 والذي تشير الوثيقة اليه، الا انه لم يجد ذلك التقرير ولا الاسماء المشاركة فيه. واستمر في البحث الى أن وجد في أحد الكتب العربية التي ذكرت الوثيقة أن المؤلف اعتمد على محاضرة للمحامي الفلسطيني أنطون كنعان والذي ذكر هذه الوثيقة في محاضرته. وأخيراً اهتدى أنيس الى هذا المحامي وكان يعيش في مصر وذهب اليه بحثاً عن الحقيقة. ما ذكره المحامي انه في أواخر الحرب العالمية الثانية سافر من فلسطين الى لندن لدراسة القانون وتجاور في الطائرة مع مسافر هندي حيث دار الحديث بين الاثنين كعادة المسافرين، فشرح أنطون للمسافر الهندي مظالم بريطانيا وسياستها في فلسطين، فما كان من الهندي الا ان ذكر له انه قرأ عن مؤتمر استعماري عقد في لندن وحضره مندوبون من عدة دول للتباحث في أمر تقسيم البلاد العربية ومنع وحدتها وإقامة دولة يهودية. من هنا يستنتج د. الصايغ أن الهندي لم يطلع على الوثيقة (على فرض وجودها)، وإن المحامي الفلسطيني استخدم هذه المعلومة في إحدى محاضراته، وبالتالي، أصبح الجميع يعتمد على هذا المصدر في اثبات حقيقة هذه الوثيقة. الا ان د. الصايغ كباحث رصين لا ينفي أو يؤكد وجود الوثيقة، الا انه ينصح بعدم الاعتماد على هذا الاقتباس الا بعد التأكد من صحة وجود الوثيقة ونصها الكامل وأسماء موقعيها.

هناك أمثلة كثيرة على معلومات يتم تداولها دون التحقق من صحتها، وهذا يؤدي الى التشكيك في الدراسات السياسية والتاريخية العربية وعزوف الباحثين الاجانب على الاعتماد عليها في دراساتهم. الأمثلة على مثل هذه المعلومات الخاطئة كثيرة. فمثلاً، فإن الكثير يتداولون معلومة تفيد بوجود خارطة في الكنيست كتب عليها "من الفرات الى النيل أرضك يا اسرائيل"، ويؤكد د. أنيس عدم وجود هذه الخارطة، وكذلك استفسرت من عضو الكنيست العربي حنا سويد عن هذه الخارطة فنفى أن يكون قد شاهد مثلها، ويؤكد هذا الأمر ايضاً النائب العربي أحمد الطيبي.

إن المؤسف وبعد هذا العرض، أن يعود الكاتب عوني فرسخ وفي مقالته "البعد القومي للقضية الفلسطينية، عبدالناصر وثورة 23 يوليو والصراع العربي-الصهيوني" الى نفس الوثيقة التي يعتقد بصحتها ويورد فقرات منها ويستشهد بشفيق ارشيدات في كتابه "فلسطين: تاريخاً، وعبرة، ومصيراً، سلسلة التراث العربي (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1991). والمبكي في الأمر أن هذا المقال ظهر في الكتاب الذي طبع لتكريم أنيس الصايغ (دراسات وأبحاث في القضية الفلسطينية). وفي اعتقادي أن تكريم أي شخص يجب أن يبتدأ بقراءة ودراسة اعماله ونقدها وتمحيصها وهذا أحسن تكريم نقدمه لمبدعينا.

وأضيف بأنني رجعت الى العديد من الكتب وهي كثيرة عن القضية الفلسطينية فلم أجد ذكراً لهذه الوثيقة، وأحدث إصدار كان موسوعة الكاتب نواف الزرو "الهولوكست الفلسطيني المفتوح-اختلاق اسرائيل وسياسات التطهير العرقي" وفي الفصل الخامس يذكر بالتفصيل وثائق خلق اسرائيل من عهد مارتن لوثر وفكرة تجميع اليهود في عهد كرومويل، ولكنه لم يتطرق الى وجود وثيقة كامبل، ولا أظن أن الزرو بكتابه الموسوعي قد غفل عن هذه الوثيقة لو تأكد له وجودها.&

&