دقيقة واحدة تكفي لاقتلاع التاريخ ولطمس معالم الحضارة،، دقيقة واحدة تكفي لمحو ذكريات العمر وحكايات السنين،، دقيقة واحدة تكفي لقتل كل الأحلام والآمال، دقيقة واحدة تكفي ليحل الموت على أنقاض الحياة، في دقيقة واحدة يجد الإنسان نفسه فجأةً طريداً لا مأوى له ولا سكن هائماً على وجهه بعد أن انتزع من بيت ظل ملتصقاً فيه منذ أن أبصر نور الحياة، يخرج من دياره قسراً تحت تهديد آلة الموت يفر بأقل المتاع الذي استطاع انتشاله في الساعات الأخيرة ويترك وراء ظهره كد السنين وتحويشة العمر وذكريات الأيام الجميلة وأحلام الغد المشرق، يغذ السير مقلباً وجهه في السماء حائراً يتساءل إلى أين المسير، وهل من أمل ضئيل يرمم حطام روحه وينقذ إرادة الحياة في نفسه من الاندثار..

هو في حسابات العسكر ليس سوى قرار واجب التنفيذ، لا شيء سوى ورقة وقلم وممحاة، هي مجرد حسابات عسكرية صارمة تخلو من أي اعتبار إنساني، اقتضت هذه الحسابات أن هذه المدينة يجب أن تصير صعيداً زلقاً ليطل الجندي بعد ذلك من برج المراقبة عبر منظاره فلا يرى ما يشوش رؤيته من حجر أو شجر أو بشر،، إذاً فلتمسح هذه المدينة بالممحاة ولتزل العمارات الشاهقة والقصور الفاخرة ولتقتلع الأشجار المعمرة ، ولا شيء غير ذلك، فقط هذا ما تبصره قلوب العسكر،، أما الروح التي امتزجت بها الأحجار والأشجار، والذكريات التي استودعتها البيوت والحارات، والمآسي التي سيخلفها التهجير فهي ترف في حساباتهم وسذاجة إذ لا يليق بهيبة العسكري أن يبدي أي رأفة ورحمة إنسانية.

إن الذكريات والأحلام والآمال والآلام الإنسانية تنتمي إلى عالم الروح، وهو عالم لا يؤمن به من اتخذ من القوة إلهه المعبود، فعبيد القوة لا يؤمنون بالإنسان أصلاً، وعلاقاتهم تحددها موازين القوة والضعف وحدها، فإن دالت لهم الأيام عدد سنين اعتبروها فرصةً واجبة الاغتنام فاستكثروا من الاستحواذ والعلو والترف والإفساد، فإذا ذهبت دولتهم بعد ذلك بحثوا عن إله جديد دالت إليه القوة والسلطان ليتذللوا إليه ويتملقوه لعله يرضى عنهم ويمنحهم هبة الحياة ويلقي إليهم بفتات يمتن به عليهم.. إنه لا إله سوى القوة في عقيدتهم، والقوةِ وحدها، أما الإنسان فهو حقير مهان ليس له سوى السياط والاستعباد والاستغلال.

في رفح المصرية يسحق تاريخ كامل، يتخذ قرار في ساعة نشوة وجنون لا كوابح له بأن تختفي هذه المدينة عن وجه الأرض دون اعتبار لتاريخ أو إنسان،، رفح المصرية هي توأم شقيقتها رفح الفلسطينة، وهذان الجزءان معاً يمثلان مدينة رفح التي كانت عبر التاريخ بوابة العبور بين قارتي أفريقيا وآسيا، مرت عليها الجيوش، وشهدت انتصارات وانكسارات وهي شامخة تراقب العابرين بصمت وتتأمل النهايات بخشوع، لكن منطق الطغاة الغبي منذ الأزل يقوم على استعداء التاريخ والحياة والإنسان، فهناك تناقض جذري بين استقرار حكم الطغاة وبين احترام الإنسان والتاريخ والحياة،، لا عجب أن يذكر لنا التاريخ عشرات الأمثلة على إحراق الطغاة للمدن والكتب ودور العلم وتحطيم الآثار الإنسانية، و اقتلاع الأشجار هذا فضلاً عن قتل الإنسان بطبيعة الحال، ذلك أن نار الصراع المشتعلة في أعماق نفوس الطغاة يدفعهم إلى إشعال الحرائق ودق طبول الحروب وتدمير المدن والحضارات واقتلاع الأشجار والأحجار وإغراق البلاد بالدماء والدمار في محاولة منهم لإطفاء النار الداخلية لعل مشاهد الدماء والدمار تعدل أمزجتهم المريضة وتهدئ ذواتهم المضطربة.&

رفح هي آخر ضحايا الصراع الممتد منذ الأزل بين الطغاة والحياة.. في رفح سيصبح كل شيء أثراً بعد عين، سيهجر عشرات آلاف الناس من بيوتهم تحت تهديد القتل إن لم يذعنوا للقرار العسكري، ستمسح آلاف البيوت عن وجه الخارطة، وستقتلع الأشجار، وستدفن في طي النسيان كل الشوارع والحارات والأزقة التي ربى فيها أبناء المدينة وتوارثوها عن آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم،،

دقيقة واحدة هي الزمن الذي يستغرقه تفجير بيت بالديناميت، ومع انتهاء هذا الزمن سينتهي كل شيء، وسيبكي الشيخ الكبير على أطلال بيته المدمر وهو يستحضر ذكريات طفولته ومرتع صباه، سيبكي وهو يشم عبير والده الذي كان يجالسه في هذا الركن من البيت القديم ليقص عليه حكايات والده وجده في الزمان البعيد، سيتذكر مرافقة والده كل يوم مع خيوط الفجر الأولى إلى حقله ليزرع ويحصد، سيبكي وهو يمر في شوارع المدينة المدمرة ويرى كل زاوية فيها تنطق بذكرى عزيزة على قلبه، من هذا البيت المدمر انطلق موكب زفافي قبل خمسين عاماً وركبت العروس الهودج يحيط بنا الأهل والأحباب يزفوننا& في طرقات المدينة وحواريها، وفي هذه الزاوية التي غدت ركاماً بنيت مع زوجتي عشنا الأول الذي احتضن أحلامنا في الأبناء والبيت والعمل ومنينا أنفسنا أن تكون أيام أبنائنا أجمل، أما شجرة الزيتون المعمرة التي اقتلعتها الجرافة من جذورها فلنا في ظلالها ذكريات الصبا حين كنا نلهو ونلعب حولها، وفي كل خريف حين يحين موسم الحصاد نجتمع لقطف الزيتون في احتفال عائلي سنوي. في الجهة الشمالية من المدينة حيث تهب علينا نسائم الإخوة وأبناء العم من رفح الفلسطينية الذين لا يفصل بيننا وبينهم سوى حد سياسي فصار الأخ فلسطينياً وأخوه مصرياً، والابن مصرياً وأبوه فلسطيني، جاءت إسرائيل وحكومة مصر فحرمت التواصل بين أبناء العائلة الواحدة ولم يبق بيننا وبينهم سوى الاستئناس بالقرب والإطلالة من على أسطح المنازل لنرقب أفراحهم وأتراحهم من بعيد، لكن حتى هذا القرب المعنوي لن يعود قائماً بعد اليوم فها هي مدرعات العسكر تجبرنا على الابتعاد نحو الجنوب أكثر فأكثر حتى تتسع الشقة وتتباعد المسافة بين أبناء الدم الواحد،، هنا كان قبل دقيقة من الآن ديوان العائلة الذي يجمعنا فنشعر بدفء القرب وأنس المودة، وهنا في مركز المدينة كان سوق نأتي إليه في ظهيرة كل يوم إليه لنبيع محصولات حقلنا ونبتاع ما نحتاجه من بضائع في بيوتنا، أما هذا الشارع الغربي الذي تغلقه مدرعات الجيش فقد كان طريقنا نحو شاطئ البحر حيث نتسابق مع الأتراب على ظهور الخيل والجمال ثم نلقي أنفسنا بين الأمواج الهادرة ونلامس خيوط الشمس الذهبية معانقين لها قبل الغروب..

&في اللحظات الأخيرة وعلى عجل قبل أن يجبره العسكري على المغادرة سينتزع الشيخ الكبير من بين أطلال الركام صورةً نجت من سطوة الزمن، لكنها تمزقت بشظايا الديناميت، سيتأمل فيما تبقى في هذه الصورة من ملامح، ويحتضنها بقوة ويبكي هذه المرة بدموع أشد غزارةً وهو يشعر أن هذه الصورة الممزقة تختزل كل شيء، تختزل التصاقه بهذه الأرض، تختزل حنينه إلى دفء الأيام الخوالي، تختزل انتصاره على عوامل النحت والتعرية طوال تلك السنين، وأخيراً تختزل جبروت العسكر واحتقاره لكل معنىً إنساني، فيما تبقى من تلك الصورة ينطق وجه أمه بالأسود والأبيض وتحدق بعينيها فيه كأنها تقول له: إن الذكرى تنتمي إلى مكان آخر غير هذه الحجارة المبعثرة والأشجار المقتلعة، الذكرى تنتمي إلى القلب، وإن ما في أعماق القلب ليستعصي على الاقتلاع..

[email protected]
&