قصة الجندي الياباني السابق هيرو أونودا تستحق التوقف عندها والتأمل، حيث تعتبر من الروايات التي تحاكي اﻷساطير والقصص الخرافية. وتحمل في ثناياها قيم مجتمعية سلطت الضوء على ثقافة أمة لاتعرف معنى الهزيمة.&

بدأت قصتنا عندما أرسل ضابط الإستخبارات السابق الى جزيرة تقع شمال غربي الفلبين في أواخر الحرب العالمية الثانية هو وثلة من زملاءه في عام 1944 في مهمة لتدمير القاعدة الجوية وميناء الجزيرة.

إلا أن اﻹتصال مع قيادته إنقطع في مستهل المهمة، وشاءت اﻷقدار أن تكون آخر تعليمات التي تسلمها تقتضي أن يرابط في مكانه ويستمر بالقتال حتى آخر جندي، الى حين ورود تعليمات جديدة. وتقطعت بهيرو اونودا وزملائه السبل، مما دفعهم للإختباء في إحدى غابات جزيرة لوبانج شمال غربي الفلبين.

أما ما يدفع الى الذهول، أن هيرو وزملاءه الثلاثة واصلو اﻹختباء لسنوات، على الرغم عثورهم بعد شهرين من إنتهاء الحرب العالمية الثانية على منشورات تم إلقاؤها من الطائرات تفيد بإنتهاء الحرب، لكنهم رفضوا التصديق، على إعتبار انها تندرج تحت الحرب النفسية وواصلوا الحرب. حتى بعد شهرين عندما وجدوا منشورات جديدة مذيلة بتوقيع الجنرال يامشيتا آمر الجيش الرابع عشر الياباني تحمل نفس المضمون، إعتقدو أيضاً بأنها مزورة وقرروا مواصلة الكفاح.

مضت السنون ولم تصل اليهم خلالها أخبار جديدة بأن الحرب قد حطت أوزارها، وأن الولايات المتحدة قد ربحت الحرب بعد إلقاء قنبلتين نوويتين على إثتنتين من المدن اليابانية (هيروشيما وناكازاجي) والذي إدى بدوره الى إستسلام اليابان وخروجها من الحرب.

فواصل هيرو وزملائه اﻹختباء والتأقلم مع الظروف القاسية، بل وحتى أنهم قاموا عدة مرات باﻹشتباك مع بعض كتائب الجيش الفلبيني. اﻹ أنه وبعد 4 سنوات إكتفى احدهم من الحرب وقرر أن يلقي سلاحه ويسلم نفسه للجيش الفلبيني حيث تم ترحيله على الفور الى اليابان، وعلى الفور أبلغ السلطات بأن 3 من زملائه ما زالوا بالجزيرة. مرت سنتان حتى تم من جديد إلقاء بعض المقتنيات والصور الشخصية لهم مع رسالة جديدة، ومن جديد لم تنطلي القصة على هيرو وزميليه مما دفعهم هذه المرة الى الهروب الى التلال ومواصلة التواري عن الأنظار.

جاء عام 1954 وتوفي جندي آخر برصاص جنود فلبينين. ثم توالت السنوات لتمر عقود قاسو فيها أصعب ظروف الحياة، إقتاتوا على ثمر جوز الهند مع ما تمكنوا من إصطياده، حتى عام 1972 حين تبقى هيرو وحيداً بعد فقدانه لرفيق السلاح اﻷخير والذي قضى بعد أن بلغ من العمر ارذله.&

أخيراً تمكن الطالب الياباني نوريا سوزوكي خلال سفره من التواصل مع هيرو، والذي بقي طوال تلك السنوات مرابطاً، وفياً لتعليمات قيادته. حيث زف له سوزوكي نبأ نهاية الحرب، وما كان من هيرو إلا أن رفض التسليم بما أخبره، رافضا إلقاء سلاحه واﻹستسلام حتى يتسلم تعليمات رسمية من قيادته كما تقتضي عقيدته العسكرية! وأخيراً تدخلت القيادة العسكرية اليابانية بعد أن تمكنوا من إيجاد وإستدعاء قائد هيرو إبان الحرب العالمية الثانية والذي كان بالطبع قد خرج من الخدمة ولكنه مازال على قيد الحياة لحسن الحظ، وتم إرساله الى جزيرة لوبانج لإعطاء الضابط هيرو التعليمات اﻷخيرة والتي تقتضي بإنتهاء خدمته، وأمره بتسليم سلاحه وعتاده وإعلامه بأنه قد آن اﻵوان أخيراً للعودة للوطن.

وهكذا كان، توجه هيرو الى طوكيو في عام 1974 أي بعد 30 عاماً بالتمام، قضاها مختبئاً بعد إنتهاء الحرب.

الجدير بالذكر، أن اليابان قد خرجت من الحرب مطأطأة الرأس، بعد خسائر هائلة على الصعيد البشري والعسكري والسياسي واﻹقتصادي. إلا أن اليابانيون قاموا بإستقبال الضابط هيرو والعائد الى وطنه بعد ثلاثين عاماً إستقبال اﻷبطال. لكن ذلك لم يخفف على اونودا وطأة خبر خسارة الحرب، حيث أنه لم يتمكن من التأقلم بسهولة على فكرة العيش في ظلال دولة مهزومة غادرها يوماً حين كانت إمبراطورية عظيمة.

توفي الجندي هيرو أونودا في السادس عشر من يناير من عام 2014 في العاصمة اليابانية طوكيو عن عمر يناهز 91 عاماً. لتنطوي معه إحدى أغرب القصص التي رويت عن الحروب عبر التاريخ.

لما تجذر في الثقافة اليابانية من قيم رفض الهزيمة والاستسلام وحب الوطن والعمل، فلم تحتاج اﻷمة اليابانية الى ثلاثين عام لإعادة بناء الدولة من جديد، حيث تمكنت من العودة الى مصاف الدول المتقدمة بسرعة لا تكاد تصدق.

أما هيرو اونودا الجندي الذي لايستسلم أبداً، والذي لم يلقي سلاحه قبل إنقضاء 30 عاماً عانى خلالها أكثر مما يمكن للعقل البشري أن يتخيله، فقد أجاب خلال إحدى المقابلات التى قام بها رداً على سؤال أحد الصحفين حول ما دار في ذهنه طوال الثلاثين عاما، حيث قال بكل بساطة: "لم أفكر سوى بشئ واحد وهو أنه يتوجب علي أن أنفذ التعليمات مهما إقتضى اﻷمر"! ليضرب مثالاً مذهلا على التمسك باﻷمل، والطاعة العمياء، والوفاء للوطن لدرجة الجنون.

&