صفحات من دم.. هكذا أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي. كل يوم شباب بعمر الورد مكللين بالغار والشارات السوداء.. كل يوم أمهات ثكالى ينهرن حزناَ وآباء يقاوون الألم لأنهم رجال شرقيين والرجل الشرقي يجب أن يبقى قوياً، ربّوه على أنه الركن القوي الذي يستند عليه الجميع، وعليه أن يحترق بصمت!

مع كل صورة لشاب من شباب بلادي بالبزة العسكرية وعبارة شهيد الوطن أسأل ما هي القضية التي مات لأجلها وأي وطن ذلك الذي يقتل أبناؤه أبناءه، أكره الساسة أكثر وأتألم على جيش بلادي أكثر.

كثر يقولون إن الجيش اللبناني أصبح طرفاً في الصراع الداخلي، ولكني لا أرى في الجيش ما يروه، أرى في الجيش ذلك العسكري الذي يقف على الحاجز صيفاً شتاء فقط لنمّر نحن، ولطالما سألت ما هي الغاية من أن يقف شاب طوال النهار على حاجز مروري، بعضنا يلقي عليه التحية بمحبة والبعض الآخر يحاول أن يستعرض بطولاته الوهمية.. أرى في الجيش ذلك الأب الذي يغيب عن عائلته أحياناً أحد عشر يوماً لأنه محجوز، وتظل خلالها زوجته قلبها على يديها لأنه يخدم في طرابلس.. أرى في الجيش ذلك الشاب الغر الذي فرحت أمه لأن ولدها أصبح ضابطاً في الجيش ولكن قلبها احترق لأنها خسرته في معركة على أرض بلاده وقد يكون من قتله أبناء بلده... أرى في الجيش أولئك الشباب من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب الذين وجدوا في المؤسسة العسكرية حضناً يؤمنون من خلالهم مستقبلهم بعيداً من ظلامية القطاع الخاص.. لجأوا اليها ليؤمنوا مستقبلا أكثر ضماناً.. ولكنهم حتماً لم يلجأوا اليها لتعلق صورهم مع شارات سوداء وترمّل معها زوجاتهم ويُيتم أطفالهم.

هذه هي المؤسسة العسكرية، هؤلاء هم أبناؤها الذين قد يكون بعضهم متعاطفاً أو مناصراً مع هذا الحزب أو ذاك، ولكنهم في النهاية ضحايا، ضحايا من يناصرون اذا ناصروا لأنها قضية خاسرة وضحايا لأنهم أسرى وشهداء، وأي شهادة، فقط لأنهم يرتدون تلك البزة المرقّطة.

كانوا يقولون لي عندما تسمع أخبار لبنان وأنت بعيد تتألم أكثر، وكنت أقول من هو بداخل النفق يختنق أكثر ولكني بعد أن أصبحت غربة وطني أقسى ورحلت فهمت ما يتحدثون عنه. في الخارج ترى التقدير في عيون من تلتقيه عندما يعرف أنك لبناني.. تفخر لأنك رغم كل ما مرّ به هذا البلد الصغير لا تزال تصارع وتطمح وتحلم بالتغيير، تفخر لأن شباب بلادك لم يستسلموا لليأس، نعم تغرّبوا وهاجروا ولكنهم تركوا بصمة أينما ذهبوا، بصمة تشّرف لبنانك... ولكن عندما ترى أرزتك ترفرف أملاً على أسطح السفارات فيما بلدك ينزف ألماً، وعندما تعيش دائماً هاجس الخوف على أحبائك في بلد مزنّر بالموت.. عندها تتألم أكثر وتحترق أكثر.