ساقتنى الظروف لأداء صلاة الجمعة فى مسجد صغير.. واعتلى المنبر شاب ملتح ومتشدد يبدو انه من دعاة تكفير المجتمع الذى ارتد عن صحيح الإسلام، فكانت خطبته العجيبة عن أن ما تفعله " داعش " فى العراق وسوريا هو انتقام من الله على خطايا الحكام والعباد.. وطالب المصلين بأن يطهروا أنفسهم من القانون الوضعى ويخرجوا على ولاة الأمر ويطبقوا شرع الله حتى ينجوا من عذابه مصورا " داعش " بانهم جند الله الذين يحاربون لإعادة الخلافة الإسلامية فى زمن الخطايا والذنوب والاثام.. واختتم بقوله " توبوا قبل أن تجبروا على التوبة "!

ويبدو أن التخويف بـ" داعش " لم يقتصر فقط على هذا المسجد الصغير وعدد من المساجد الأخرى فى بر مصر، بل انتقل الخوف والترهيب من عذابها الى عدد من الدول القريبة اخرها لبنان..

فقد سبب حادث إلقاء قنبلة على مطعم فى مدينة طرابلس اللبنانية وسقوط 4 جرحى لأن المكان كان يستقبل زبائن مفطرين فى نهار رمضان، ارتباكا فى الخطاب الرسمى اللبنانى الذى حاول تجاهلها.. لكن تداعيات الحادثة فى بلد مختلط دينيا خلفت قلقا وخوفا أيضا، ظهر عبر تعليقات واشتباكات طافت بها وسائل التواصل الإجتماعى.. ساعات وجرى تفجير ثان مماثل فى المدينة نفسها خلال أقل من يومين..

إنها واحدة من مظاهر الزمن الداعشى الصاعد..

فـ" داعش " ليس تنظيما دمويا شرسا فحسب، ونحن نخظىء إن تعاملنا معه بصفته حالة محدودة المكان والسطوة.. " الداعشية هى مزاج وعقل سبق أن عانينا منه عبر تنظيمات إسلامية عديدة وعبر شطحات فى عدة دول وفى حقبات مختلفة.. لكن ما يخيف اليوم هو التمدد والتشذر الذى اسمه مجازا " داعش " والذى بات يجذب كثيرا الى نموذج يجسد الدرك الأحط من جنون العنف الدينى..

نعم، نحن نعيش زمنا داعشيا لا تنحصر شروره بالمساحات التى يحكمها مسلحو الجماعة فى سوريا والعراق فيذبحون ويصلبون ويجلدون باسم الله.. الداعشية هى ذلك الإنفعال الذى يملأ كثيرين فيقتنعون بأنهم يستطيعون أن يفرضوا بالقوة رؤيتهم للدين وينتقمون ممن يخرج علي تعاليمهم، ولكيف يجب أن يعيش الناس ويسيروا شؤونهم..

لو لم نكن فى زمن داعشى هل كان يجرؤ رئيس بلدية ثانى أكبر مدن لبنان، أى طرابلس، أن يصدر تعميما بالتمنى بعدم المجاهرة فى الإفطار، بعد أن سبقه الى ذلك بعض القادة المحليين فى مدينة صيدا ومناطق لبنانية أخرى..

وعلينا الان أن نفكر بعمق ما الذى حول شبابا غاضبا بفكر متخلف للحياة والشريعة يلغون تراث الاعتدال والسماحة فى الإسلام الى ثوار وأمراء بل " وخليفة " وباتوا يحتلون رقعه واسعه فى الوطن العربى.. هل صحيح انهم عقاب الهى على ذنوبنا، واننا نسينا الله فارسل علينا عقابا كما أرسله على عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الفيل.؟.

( الهروب من الحقيقة )

&الداعشيون يرفضون كل الأنظمة والتشريعات، يلقون علينا برؤيتهم فى السياسة والحكم والحياة والمجتمع والإقتصاد على ورقتين أو ثلاث من مقاس A4، ولا خيار أمامك يا من دخلت ضمن رعايا أمير المؤمنين غير السمع والطاعة، لا مجال للمناقشة، لا يهمهم ان تكون وجيها فى قومك، مهنيا متعلما، أستاذا جامعيا، شيخ قبيلة وعالم دين، سياسيا نشطا وبرلمانيا، أو قاضيا، بل إن التوبة واجبة فى حق الأخرين الذين قبلوا يوما الإحتكام للديموقراطية الكفرية والقوانين الوضعية، وكليهما من نواقض الإسلام، لا يشفع لك أنك قائد كتيبة مقاتلة شاركتهم " الفتح " فعليكم جميعا السمع والطاعة والبيعة لأمير المؤمنين، لن يدعو الى مجلس تأسيسى، يجمع كل من سبق، للإتفاق والتوافق على نظام الحكم القادم، والدستور، والحقوق والواجبات، وتمثيل الشعب، والفصل بين السلطات، لا حاجة للإستمرار، فلقد غضب أبو عبيدة الجزراوى، فكل ما سبق كفر وتغريب، نحن مرجعنا الكتاب والسنة ولا شىء غيرهما، أى كتاب وسنة يا أخى، القران حمال اوجه، والأمة تعددت مذاهبها وإجتهاداتها بعد 1400 عام ولابد من أن نأخذ هذا فى الحساب.. يصرخ قائلا:" اسكت، مرجعنا الكتاب والسنة وكفى، لا مذهبية فى الإسلام والقران بيننا " ويلقى بكتيب من 40 صفحة صارخا، وتفريغ لخطبة أمير المؤمنين الأخيرة " كل ما تريدة هنا "..

بعد ( سبتمبر ) 2011 كتب المستشرق الشهير الذى لانحبه، برنارد لويس كتابه المهم " ما الخطأ الذى حصل؟ الصدام بين الإسلام والمعاصرة فى الشرق الأوسط " حاول فيه أن يجيب عن سؤال ما الذى أدى بالمسلمين الى حالة التخلف عن الحضارة الغربية بعدما كانوا روادا فى الحضارة والعلوم والإنجازات البشرية، وعاد يبحث فى أسباب فشل الدولة العثمانية فى قرنها الأخير من إتمام مشاريع عدة للعصرنة، على رغم أنها شرعت فيها، داعبت العصرنة ولكن لم تأخذ بكل أسبابها، ولكن لعل أهم نتائج بحثه هو اعتقاده أن المسلمين اشتغلوا أكثر بالبحث عمن فعل هذا بهم أكثر من انشغالهم بماذا فعلنا بأنفسنا..

ولأننا لا نحب برنارد لويس، لم نهتم كثيرا بكتابه، ولم نعترف بأن ثمة خطأ ما هائلا يعيش فى داخلنا، لم ننتبه الى عالمنا العربى اصبح كمنسأة نبى الله سليمان، أكلتها العتة من الداخل فاهترأت، فلم ينتبه احد لاهترائها وموت صاحبها إلا وقد خر على الأرض هاويا، دول وأنظمة بدت مهابة قوية، جمعت المال والنفط والسلاح والزعيم والامن والإعلام والمثقفين وعلماء الدين الذين يؤكدون اننامن انتصار الى انتصار، ومن انجاز الى اخر، عراق صدام حسين، وسورية الأسدين، ومصر مبارك، وليبيا القذافى، ويمن على عبد الله صالح، عاشت أعواما طويلة مهترئة من الداخل، تعيش بإرهاب المخابرات والأمن وكذب الإعلام، لا بساسة أو سياسة، خبراء الإقتصاد اخر من يستمع إليهم الزعيم، خطط التنمية تكتب ولا يقرأها أحد ناهيك أن ينفذها، التعليم يتردى ومعه المجتمع والقيم ولا أحد يهتم فكان انهيارها حتميا ومستحقا، لا مؤامرة خارجية، وإنما أخطاء 60 عاما بدأت يوم قاد عسكرى أول إنقلاب، أو لعلها أخطاء 100 عام منذ أن شكل الإستعمار عالما عربيا مشوها، المهم أنها أخطاء تراكمت طبقات بعضها فوق بعض، فكان طبيعيا أن ينهار كامل الدار لحظة إطلاق أول رصاصة على عراق صدام، واول رسالة " فيسبوك " حان وقت ان نسأل " ما الخطأ الذى حصل؟ " ولنبحث فى داخلنا، أما ذاك الذى يبحث عن مؤامرة أجنبية فهو يهرب من الحقيقة، إن الأخطاء فينا فما هى؟ هل هو الاستبداد المغلف بتلك الكلمة الخادعة " الإستقرار "؟ أم أنها نظرية المفكر البحرينى محمد جابر الأنصارى " الحرص على الغنيمة "، فأصبح الزعيم العربى ومن حوله ينظرون الى الوطن كغنيمة عابرة، مثل الذى يذبح وزته " وطنه " ليحصل على كل الذهب؟ هل هى الطبقية التى نرفض أن تعترف بها ولكن نعيشها كل يوم فى معظم مجتمعاتنا العربية، نراها فى نظرة الحاكم نحو " الشعب الاخر " هو والطبقة المستفيدة من حوله من أثرياء ومثقفين وشيوخ دين بل حتى طبقة وسطى خادمة لمن أعلى منها، فيرون فيمن دونهم مجرد رعاع يتمايزون عنهم حتى ثقافيا، لا يستحقون ديموقراطية ولا حق لهم في الإختيار والرأى لأنهم لا يحسنون الاختيار ويجب تعليمهم وتحسين وعيهم أولا؟ هل هو الجمود فى الدين وفرض مدرسة فقهية فضلها لأنها توفر له فقه السمع والطاعة، ولا يكترث بعجزها عن مواكبة العصر والاجتهاد، بينما تتسرب من حولنا أشكال العصرنة المادية لا الفكرية، فتقاطعت العصرنة مع الجمود وانفجرت فى ظاهرة " القاعدة " و " داعش ".. أم أن الوقت تأخر على هذا السؤال، ودورة الخراب والانهيار بدأت ولا راد لقضاء الله، فلا أحد يريد الاعتراف بأن هناك خطأ حصل أو يحصل، انظروا الى رئيس الوزراء العراقى السابق نورى المالكى ومعه بقيه ساسة العراق كنموذج لهذه الحالة، عجزوا عن إدراك أن وطنهم ينهار فتلاسنوا يوم افتتاح برلمانهم فتأجلت الجلسة أسبوعا، ومضى المالكى يتناحر حتى مع شيعته، المالكى وساسة العراق مجرد نموذج لنا جميعا، لا أحد يريد أن يعترف بأن خطأ حصل، فى هذه الأثناء الوحيد الذى تحرك بديناميكية هو الطوفان والتاريخ..&