تأسست "مشيخة الحاضرة" (تونس المدينة) مع نهاية القرن الثامن عشر و تحديدا سنة 1789، و كان شيخ الحاضرة يعين من قبل ملك تونس من بين الأعيان من كبار التجار و علماء الزيتونة و غيرهم. وفي سنة 1858 تأسست رسميا بلدية تونس المدينة التي ترأسها يومها رجل الإصلاح، خريج المدرسة الحربية بباردو، الجنرال حسين. و في سنة 1858 تم دمج وظيفة شيخ المدينة مع وظيفة رئيس البلدية فأصبح رئيس بلدية الحاضرة (مدينة تونس العاصمة) ينعت منذ ذلك التاريخ و إلى يومنا هذا بشيخ المدينة و نال في تلك الفترة الكثير من الحظوة و التشريف.
وتمثل هذه المحطات التاريخية دليلا قاطعا على عراقة الحكم المحلي في هذه الأرض الخضراء و إلى وعي "الأولين" – و بخلاف الآخرين- مبكرا بأهمية العمل البلدي، في إطار تمش إصلاحي بدأ مع نهاية القرن الثامن عشر. و لعل ما يدعم هذا الطرح، هو أن رئاسة بلدية الحاضرة، وفي سنوات الإستقلال الأولى، و من خلال إدراك الزعيم الحبيب بورقيبة لأهمية العمل البلدي، لم "تُمنح" لمن هب ودب إذ تداولت عليها أسماء أثرت في تاريخ تونس الحديث على غرار زعيم الشباب علي البلهوان مفجر انتفاضة 9 أبريل 1938 التي طالبت سلطات الحماية الفرنسية ببرلمان تونسي، وحسيب بن عمار رائد التيار الليبرالي الدستوري الذي طالب مبكرا بالإصلاحات الديمقراطية في صلب حزب الدستور الحاكم و الذي يقف وراء تأسيس منظمات حقوقية وطنية وازنة في البلاد التونسية.
ورغم أهمية الحكم المحلي في الديمقراطيات العريقة، و رغم المهام العديدة المنوطة بعهدة البلدية في تونس و التي جعلتها مؤثرة في الحياة اليومية للمواطنين، فإن الرأي العام الوطني في تونس لا يبدو وأنه يولي هذه المسألة الإهتمام اللازم. فالساسة انصرفوا للإعداد للإنتخابات الرئاسية والتشريعية وسارت في ركابهم جل منظمات المجتمع المدني وكذا عموم المواطنين.
فبحسب ما رشح من معلومات فإن الحزب الوحيد الذي شكل لجنة للحكم المحلي طيلة الفترة الماضية هو حركة نداء تونس بمبادرة من الدكتور خالد شوكات. و بحثت هذه اللجنة في مسألة مراجعة القانون عدد 33 لسنة 1975 المؤرخ في 14 مايو 1975 المتعلق بإصدار القانون الأساسي للبلديات و في كيفية تطوير العمل البلدي انطلاقا من الواقع المعاش من خلال التجربة الوطنية العريقة في العمل البلدي و بالإستئناس بتجارب أجنبية، فيما كان البعض يتصارع من أجل احتلال المواقع في النيابات الخصوصية (المجالس المحلية المؤقتة المنبثقة عن الثورة) التي كان أداء معظمها هزيلا و أوصل البلاد إلى حال يرثى لها.
كما يقوم المعهد العربي للديمقراطية ومقره تونس بتنفيذ برنامج يتضمن دورات تكوينية للشباب (المتحزب و المستقل) في الحكم المحلي يشمل عددا من ولايات الجمهورية، سيشفع بتكوين شبكة للحكم المحلي هدفها تطوير العمل البلدي و النظر في مسألتي المجالس الجهوية و الأقاليم التي نص عليها الدستور الجديد. وهو جهد يبدو بحاجة إلى دعم خاصة من منظمات المجتمع المدني الأخرى التي تهمل هذه المسألة شديدة الإرتباط بالحياة اليومية للمواطن.
لقد انتبهت "الديمقراطيات العريقة" بصورة مبكرة إلى أهمية اللامركزية في تقريب خدمات الدولة، بعد أن عجزت السلطة المركزية وبإسم الوحدة الوطنية عن تحقيق الرفاه للمواطن و ذلك بالرغم من "عمليات التجميل" التي أدخلت على النظام المركزي من خلال بعث إدارات جهوية في إطار ما نسميه في تونس "اللامحورية". فالتجربة أثبتت أن المسؤول القابع وراء مكتبه في العاصمة لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يكون ملما بجميع مشاكل المناطق الداخلية حتى و إن جنح إلى تنصيب رسل له قارين مقيمين بالجهات، فبالنهاية ستتعطل مصالح المواطنين لأن "رسل الخير" سينتظرون إملاءات "سيد الحاضرة" الذي يمارس عليهم سلطته الرئاسية، لأنهم بالنهاية ليسوا أصحاب القرار ولا يتمتعون بالإستقلالية المالية.
لذلك منحت البلديات في الغرب صلاحيات واسعة و شمل مجال تدخلها الأمن والصحة والتعليم، ولم يعد يقتصر دورها فقط على النظافة والتنوير والطرقات وإخراج وثائق الحالة المدنية كما هو الحال في بلادنا. وهو ما يفسر العدد القليل من الوزراء في الحكومات الغربية الذي لا يتجاوز عدد أصابع اليد في بعض الأحيان.
فحين تتمتع إدارة ما بسلطة اتخاذ القرار دون انتظار الإملاءات، و تبقى الرقابة المسلطة عليها رقابة إشراف لاحقة لاتخاذ القرار لا غير، و حين تكون لهذه الإدارة ذمة مالية عامرة ومستقلة عن الإدارة المركزية، وحين يكون رئيس هذه الإدارة منتخبا من أبناء المنطقة دون سواهم، وحين تنتشر ثقافة أن المنتخب أقوى سلطة من المعين، فإن النجاعة الإدارية ستتحقق ما في ذلك شك و ستتمكن هذه الإدارة من تنفيذ برامجها دون معوقات، إذا وجد بطبيعة الحال أشخاص أكفاء متمرسون بالحكم يسيرون شؤونها.
&إننا بحاجة اليوم في تونس و أكثر من أي وقت مضى إلى الإنكباب على إجراء إصلاحات جذرية على منظومتنا الإدارية تدعم أكثر فأكثر الحكم اللامركزي الذي يمثل حلا وسطا بين الفدرالية التي قد تؤدي إلى تفكك الدولة و بين المركزية التي تؤدي إلى البيروقراطية و تعطل المصالح. علينا أن نراجع قانون البلديات مراجعة جذرية، وعلينا أن نمكن جماعاتنا المحلية من صلاحيات أوسع على غرار ماهو حاصل في الديمقراطيات العريقة، وعلينا أيضا أن ندفع بلدياتنا باتجاه الإعتماد التدريجي على الذات من خلال إيجاد موارد جديدة باعتبارها أشخاصا معنوية لديها أهلية الإلزام والإلتزام من خلال إطلاق يدها أكثر فأكثر للمبادرة وبعث المشاريع التجارية أو للمضاربة في البورصة و شراء الأسهم ما قد يمكنها من الربح وتوفير السيولات المالية الكافية لتنفيذ برامجها.
فالأفكار عديدة و متنوعة في هذا المجال والمهم هو أن توجد الرغبة وتحصل القناعة لدى الرأي العام بأهمية العمل البلدي والحكم اللامركزي عموما، لأن هذه القناعة لو كانت حاضرة لسارع القوم إلى اختيار ممثليهم على المستويين الجهوي والمحلي قبل انتخاب الرئيس وأعضاء البرلمان.&
&