لم تكن شهادة مروان حماده امام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان سوى تعرية أخرى باسلوب شيّق للنظام السوري الذي تكفّل بالقضاء على سوريا وعمل طوال ما يزيد على اربعين عاما على القضاء على لبنان.
لم تأت شهادة النائب اللبناني الحالي، والوزير السابق، بجديد. ربّما جديدها أنّها الشهادة الأولى المتكاملة لمرحلة الأشهر التي سبقت جريمة العصر. اكتفى بسرد الوقائع كما هي من دون زيادة أو نقصان. ساعد في تحديد الإطار السياسي ـ الأمني الذي اغتيل فيه رفيق الحريري. كشف أن الحريري ذهب ضحية الوقوف مع لبنان ومحاولة منع النظام السوري من تدمير البلد، بما في ذلك نسيجه الإجتماعي.
امتلك مروان حماده، الذي تعرّض بنفسه لمحاولة اغتيال قبل اربعة اشهر ونصف شهر من تفجير موكب رفيق الحريري ما يكفي من الجرأة لتسمية الأشياء باسمائها بعيدا عن أيّ مبالغات. اكتفى برواية حقيقة ما جرى امام محكمة دولية قامت بموجب قرار صادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. اعتبر القرار الذي لم يواجه الفيتو الروسي أو الصيني اغتيال الحريري عملا "ارهابيا".
كشفت شهادة مروان حماده أنّ ليس لدى النظام السوري طريقة أخرى يتعاطى بها مع لبنان سوى القتل. بالنسبة اليه، لا مجال للأخذ والرد. الوسيلة الوحيدة للبقاء في السلطة هي الغاء الآخر من دون محاولة التفكير في النتائج التي يمكن ان تترتب على ذلك.
كشفت هذه الشهادة ايضا أنّ النظام السوري لم يتعلّم شيئا من التجارب التي مرّ بها. اكثر من ذلك، كشفت أنّه لا يمكن لهذا النظام ان يتعلّم شيئا. الدليل على ذلك أنّه يحاول في مواجهة الثورة الحقيقية التي اندلعت في سوريا، الغاء الشعب السوري. يفعل ذلك معتمدا على الأدوات نفسها التي استخدمها في التخلص من رفيق الحريري. هل صدفة أنّ المتهمين بتنفيذ جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه عناصر من "حزب الله" المتورط هذه الأيّام إلى ما فوق اذنيه في الحرب على الشعب السوري؟
أكّد مروان حماده ما كان مؤكّدا بالنسبة إلى الوقائع التي سبقت الجريمة. يثبت كلامه أنّ النظام السوري لم يستطع يوما تطوير نفسه والتعاطي مع التغييرات التي تشهدها المنطقة والعالم.
ظنّ النظام منذ البداية أنّ ما يصلح للسبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي ما زال يصلح للقرن الواحد والعشرين وأنّه سيكون في استطاعته مقاومة منطق التاريخ. هناك مقطع في غاية الأهمّية في شهادة مروان حماده وهو متعلّق باتفاق الطائف. كشف النائب اللبناني مدى خشية النظام السوري من أن عليه بدء التفكير في الإنسحاب عسكريا من لبنان بموجب اتفاق الطائف. قال في هذا المجال أن رفيق الحريري طلب منه عدم الإتيان على ذكر اتفاق الطائف في احد البيانات الوزارية للحكومة، وهو البيان الذي تنال الحكومة الثقة على اساسه في مجلس النوّاب. كان الحريري يدرك مدى حساسية النظام السوري تجاه اتفاق الطائف. كان يدرك أنّه يسعى إلى ابقاء احتلاله للبنان إلى الأبد، على غرار احتلاله لسوريا التي سمّاها "سوريا الأسد".
لم تعد هناك من اسرار في ما يتعلّق بالظروف الداخلية التي ادّت إلى اغتيال رفيق الحريري ورفاقه. قال مروان حماده كل شيء تقريبا مع تركيز خاص على القرار الرقم ١٥٥٩ وما احاط به من اتصالات سياسية قبل صدوره.
سيستكمل مروان حماده شهادته لاحقا. لديه الكثير يقوله، في ما يبدو. ما كشفه إلى الآن مهمّ، بل مهمّ جدّا. الأهمّ من كلّ ما قاله أنّه يشهد امام المحكمة الدولية التي تشكّلت نتيجة اغتيال رفيق الحريري. كشفت هذه المحكمة أن الأيّام الذي كان فيها النظام السوري يقتل ولا يجد من يحاسبه، تنتمي إلى ماض بعيد وعالم آخر.
لن تعاقب المحكمة النظام السوري ومنفّذي الجريمة فقط. المحكمة هي البوابة التي ستقود إلى فتح كلّ الملفات، أكان ذلك في لبنان أو في سوريا. من ملفّ كمال جنبلاط الذي اغتاله النظام السوري بشكل مباشر في العام ١٩٧٧، إلى ملفّ جريمة اغتيال الدكتور محمّد شطح وقبلها جريمة اغتيال اللواء وسام الحسن.
ليس بعيدا ايضا اليوم الذي سيظهر فيه ارتباط جريمة اغتيال رفيق الحريري بسياق اقليمي معيّن بدأ بالحرب الأميركية على العراق التي كانت ايران شريكا اساسيا فيها.
ما كشفه مروان حماده بالوقائع والأسماء، خصوصا ما يتعلّق بالتهديدات المباشرة التي وجّهها بشّار الأسد إلى رئيس مجلس الوزراء في لبنان، ممثّلا بشخص رفيق الحريري، ليس سوى بداية...أمّا النهاية، فمن سيكتبها ليس المحكمة الدولية، بل الشعب السوري الذي بدأ ثورته في آذار ـ مارس ٢٠١١. هذه الثورة بدأت ولا يمكن ان تنتهي، بغض النظر عما سيحلّ بسوريا، إلّا بفتح ملفات الداخل، خصوصا ملفات السجون والإغتيالات وسرقة البلد وابتزاز العرب عن طريق الإرهاب. هذه الملفات متعلقة بما ارتكبه النظام السوري بسوريا قبل لبنان. مشكلة هذا النظام، الهارب من ازماته الداخلية المستمرّة، كانت دائما مع السوريين الذين رفضوا في كلّ وقت الدوس على رقابهم.
مرّة أخرى، بغض النظر عمّا يمكن أن يحلّ بسوريا، نحن ما زلنا في بداية فتح ملفّات النظام. كلّ ما في الأمر الآن أنّ شخصا شجاعا اسمه مروان حماده أدّى واجبه كاملا تجاه مواطنيه في لبنان، كذلك تجاه الإخوة في سوريا الذين عانوا ما لم يعانيه شعب عربي آخر بعدما حلّت عليهم كلّ لعنات العالم، بدءا بالإنقلابت العسكرية في ١٩٤٩ وصولا إلى نظام البراميل المتفجّرة الذي لا يزال مقيما في دمشق. بين انقلاب حسني الزعيم في ١٩٤٩ والنظام الحالي مرّت سوريا بمرحلة الوحدة مع مصر حين تحكّم الضابط عبد الحميد السراج برقاب مواطنيه، ونظام البعث الذي اشرف على تصفية كلّ ما له علاقة بالحضارة في البلد. أخذ البعث البلد في نهاية المطاف إلى نظام الطائفة ثمّ نظام العائلة الذي لم يعد يجد حليفا له سوى المشروع الإيراني التوسّعي القائم على اثارة الغرائز المذهبية من جهة والإدعاء أنّه يقاتل "داعش"، التي صنعها، من جهة أخرى.
صحيح أن الإسم الرسمي للمحكمة الدولية هو "المحكمة الدولية من أجل لبنان". لكنّ الصحيح ايضا أنّها محكمة من اجل سوريا ايضا. كان الأجدر تسميتها "المحكمة الدولية من أجل سوريا ولبنان". لم يفت الوقت بعد لتغيير الإسم!&&&
&