ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط الآن، أكبر وأوسع من أن يكون مجرد نتيجة سيادة أيديولوجية معادية للعالم وللحضارة وللحياة برمتها. ولا هو فقط نتيجة مباشرة لما تعانيه شعوب المنطقة من فقر يسير في ركابه الجهل والمرض. هي مجموعة متشابكة من العناصر، منها ما ذكرنا، ويزيد عليها العديد مما يجب أن نكتشفه، عبر دراسات موضوعية علمية جادة. لكن هذه جميعها نستطيع تصور أنها ذهبت بنا إلى حيث ما يمكن تسميته سيادة "ثقافة الصراع".
"ثقافة الصراع" فيما نظن هي أول ثقافة إنسانية، بدأت مع إشراق فجر الوعي الإنساني، حين كان الإنسان الأول يهيم منفرداً على وجهه، يبحث عن غذائه، عن طريق التقاط ما يتساقط على الأرض من ثمار الأشجار. كان الإنسان في هذه المرحلة لا يحتاج ولا يمكن أن يؤدي به أسلوب حياته، إلا لثقافة الصراع. فقد كان في حالة صراع دائم طوال نهاره وليله، مع سائر الكائنات المحيطة ببيئته، سواء كانت حيوانات مفترسة أو حشرات، أو بشر ينازعونه ملكية ما يلتقط ويختزن من غذاء.
مع تطور حياة الإنسان وتراكم خبراته، ما أدى لتطور وسائل الحصول على طعامه، وهو ما نسميه الآن "تطور أساليب الإنتاج"، وودع الحياة الفردية ليعيش في مجتمعات، تقوم حياة الأفراد فيها على الاعتماد المتبادل بين بعضهم البعض، وظهور التخصص في العمل، بداية من العصر البرونزي وما تلاه، لم تختف أو تتلاش "ثقافة الصراع"، ولكن دخل وتداخل معها ما يمكن تسميته "ثقافة المصلحة"، و"ثقافة التعاون والتكامل". وبقي الصراع موجوداً طوال التاريخ الإنساني وحتى يوم الناس هذا، لكن تحول جزء كبير من دواعي الصراع، إلى أمر يبدو قريباً منه وهو "التنافس"، الذي يأخذ صورة "صراع" هادئ، يحصل فيه كل طرف على أقصى قدر ممكن من المكاسب، دون أن يحلق ضرراً بمنافسه. هذا ما نسمية لعبة المكسب المتبادل win win game، بدلاً من اللعبة الصفرية zero sum game.
أبسط مثال هو ما يحلو لنا ترديده دوماً، عما نسميه مصالح (أطماع) غربية بترولية في منطقة الشرق الأوسط. نتناول الأمر وكأنه لعبة صفرية، يمتص فيها الغرب دماء وثروات شعوب الشرق، ليحقق هو "مصالحه"، أو بالأحرى "أطماعة"، بما تحوي تلك المفردة من نظرة سلبية مستهجنة للموضوع. رغم أن الواقع الواضح لكل ذي عينين لا يملأهما الكراهية والعداء، وعقل لا تسيطر عليه "ثقافة الصراع"، أن اللعبة هنا لعبة مكسب متبادل win win game، يقوم فيها الغرب بعلمه وتكنولوجيته باستخرج البترول من باطن صحارينا، ليعطينا مقابله ما نقيم به الأبراج الشاهقة عوضاً عن الخيام، ولنركب بها السيارات الفارهة والطائرات بدلاً من الناقة والبغال والخيول. واضح أيضاً أنه بدون هذا التعاون، لن نستطيع استخراج البترول من جوف الأرض، وإن أخرجناه لن نستطيع أن نشربه، إن لم نجد من يشتريه.
رغم أن شعوب الشرق الأوسط، يقع في القلب منها أقدم شعبين، كانا أول من أضاء شمعة الحضارة في التاريخ الإنساني، وهما الشعبان العراقي والمصري، إلا أن عوامل عديدة أدت إلى تعثر مسيرة هذين الشعبين الحضارية، بل وأدت إلى ما يشبه الشلل الحضاري في سائر المنطقة، الممتدة من أفغانستان شرقاً، حتى مراكش غرباً.
وفق "ثقافة الصراع" تكون العلاقة مع الآخر يسودها "العداء"، الذي قد يصل إلى حد اعتبار مواجهتنا معه هي "صراع وجود"، وليس مجرد صراع على اقتسام مكاسب أو غنائم. هكذا في "ثقافة الصراع" تروج كل أنواع الأيديولوجيات التي تقوم على العداء للآخر، سواء كانت أيديولوجيات دينية كايديولوجيا الإسلام السياسي، أو سياسية اقتصادية كالماركسية، أو قومية عنصرية كأيديولوجيا العروبة. فهذه النوعية من الثقافة هي التربة التي تترعرع فيها مثل هذه الأفكار والأيديولوجيات، التي صارت اليوم أشبه بالفيروسات، وهي التي تصيب شعوب الشرق الأوسط بحالة الشلل الحضاري المستديم، والتي تلفت الانتباه وتثير الذعر الآن مظاهرها الساخنة الدموية، ممثلة في ممارسات الجماعات الجهادية الإسلامية باختلاف مسمياتها.
نهدف هنا للفت الأنظار إلى طبيعة التربة، وليس فقط نوعية النباتات، أو بالأحرى الأشواك التي تستشري فيها. نوعية الثقافة التي تجعل الناس أكثر قابلية، إن لم يكونوا في الحقيقة، يبحثون بشغف عن أي أيديولويجية تتوافق وتلبي وتعطي شرعية لروح الصراع والعداء المتمكنة من عقولهم وسكولوجياتهم.
كيف يمكن تطهير تربة الشرق الأوسط من ثقافة أو روح الصراع؟. . ذلك هو السؤال!!
[email protected]
&