&

"نحتاج الى مثقف كشريعتي" قال مثقف عراقي ليعبر عما يعتقد انه حل للواقع العراقي، لكنه ايضا دون قصد، يعبر عن الاهتمام المتصاعد في بعض الاوساط العراقية والعربية بصاحب (أبي، أمي.. نحن متهمون)، في الوقت الذي تجاوزه التنوير الايراني، وحوله الى جزء من تراثه السياسي والفكري الحديث، بعيدا عن استحضاره كفكرة مركزية في العملية الثقافية.&

معلم الثورة الايرانية وملهم شبابها، يشد اهتمام بعضنا الباحث عن التغيير الفكري والثقافي داخل المجتمع، لأن أفكاره تتعارض مع الاسلام السياسي الراهن ورجل الدين التقليدي، ومن جانب آخر قدمت قراءة أخرى للإسلام باعتباره ثورة على نظام الشاه، حصانة امام الاصابة بمرض الغرب، ومرجعية لبناء ثقافة خاصة... لكنها قراءة تنسجم مع تلك الفترة الايرانية التي أججت الاحتجاجات حتى وصلت الى ثورة، وهي ايضا ضمن ملامح مرحلة عالمية، أعادت انتاج الايديولوجيا في قوالب جديدة، قبل أن تكتشف فشلها منذ الثمانينيات.

ايران في تلك الحقبة التي تمثل مرحلة انتقالية في الحضارة العالمية، صنعت ايديولوجيتها الخاصة، وفي سبيل تشكيلها حصل الصراع الخفي بين افكار شريعتي ومرتضى مطهري، رجل الدين الذي سعى الى عقلنة المقولات الغيبية واصلاحها، اعتمادا على مزج الفعل الثوري بالفلسفة التقليدية التي كان احد اساتذتها. تغلبت في النظام الرسمي رؤية الثاني، وتعمقت مع التأسيس ثقافيا وفقهيا وسياسيا لولاية الفقيه. ولكن هناك أيضا حراك غير رسمي داخل الاوساط الجامعية والمتنورة، طّوّر من علي شريعتي، مزجه بعقلية نقدية ومعرفة دقيقة بالواقع، ليصل الى مدى ابعد واعمق واكثر عقلانية وتنويرية واقل تقاطعا مع الغرب، فلم يعد من صاحب (الاسلام والانسان) سوى ملامح، لأن الاسلام لم يعد هو الايديولوجيا كما كان لديه، والفعل الثوري بات مختلفا.

هذا التطور المطرد في حركة الافكار هناك، أخاف الدين التقليدي والدين السياسي على حد سواء. واذكر في أواسط التسعينات، كنا في جلسة حضرها مرتضى العسكري، وهو رجل دين عراقي ايراني، يعد من الاباء المؤسسين للإسلام السياسي في العراق، وتحدث حينها عن مخاطر شريعتي، وقال "علي شريعتي صنمٌ اصطدمت به فتكسر وتكسرت"، ليرد عليه شاب شجاع من الحضور "بل جدار اصطدمت به فتكسرت ولم يتزحزح".

صدق، فشريعتي لم يعد شريعتي في الفكر الايراني المناهض للنظام القائم وللأيديولوجيا السائدة، مهد لتأثير آخرين من ورثته مثل عبد الكريم شروش ومصطفى ملكيان... وناقديه وعلى رأسهم داريوش شايغان. والجدار الذي لم يتكسر على يد رجال الدين المنظّرين، أعيد بناءه من قبل التلاميذ وآخرين خصوم الايديولوجيا الدينية...

في هذا الوقت يستشعر بعضنا من المتدينين الباحثين عن التنوير أهمية شريعتي، ما يكشف عن عمق التراجع الذي عليه الوسط العراقي وبعض الاوساط العربية، فالمنشأ الذي تحكمه ثيوقراطية قوية، تجاوزه في اطار الصراع مع النظام وعقيدته، بينما لا نزال ننظر اليه نظرة اندهاش، أحيانا لأنه ميز بين "التشيع العلوي والتشيع الصفوي" واحيانا لأنه يغذي رومانسية ثورية لدى بعضنا، واحيانا أخرى لأنه يقدم مقاربة نحاول أن نحقق من خلالها الصراع المحتدم بين الحداثة والدين داخل افكارنا.&

والامر ايضا يندرج ضمن حالة التيه التي نحن عليها، فرغم ان العراق يمتلك عالم اجتماع آخر، اقدم من شريعتي، وابعد ما يكون عن رومانسية الثورة والايديولوجيا، واقرب الى عمق المعرفة، وهو علي الوردي، إلا ان العقل العراقي التائه، لا يميز كثيرا بين الوردي الرافض للأنماط الدينية وشريعتي المحكوم بإعادة تفسيرها.

ان هذا العقل من جانب يبحث عن صيغة اسلامية عقلانية، فيجد ذلك في المفكر الايراني، وأحيانا يحاول ان يتخلص من ركام النظام القبلي والديني المتحكم، فيعود للوردي، وهكذا مع آخرين. فلا يتم التعامل معهم كمكونات للثقافة السائدة، لأن الاثنين ليسا كذلك؛ شريعتي لم يكن طرفا في تشكيل الوعي العراقي، وصاحب "اللمحات" بعيد عن التأثير بسبب عوامل أهمها ان الافكار لا تباع في سوق تسيطر عليه الشعرية والشاعرية، فضلا عن كونه يظل محصورا ضمن مقتطفات او "مانشيتات" تستهل بها مقالات او تنشر على صفحات التواصل الاجتماعي.

لذلك تظل الافكار والمعارف والصراع الثقافي العراقي في حالة تخبط مستمر، لا يخرج عنها لأنه يتعامل بردة فعل تجاه الظرف الراهن، وبشكل مجزأ. فهو لم يصنع فعله بعد، ولا ينظر للأمور بعين واسعة، ولا يمتلك قراءة ومعرفة دقيقة بالواقع. ومع استمرار الامور كذلك، لا يرجى بناء مرجعيات فكرية موازية تشكل لاحقا ملجأ و"مترايس" أمام الاقصاء الديني.

اننا الذين لم نطور منجز الاربعينات والخمسينات الكبير، وارتدت ثقافتنا الى روح متحفزة نحو الكره فوظفتها السياسة، لا يمكن أن نصنع فعلاً، وعلي شريعتي ليس المناسب في هذه المعادلة، لأنه منجز عقائدي اذا امتزج مع الروح الثقافية السائدة، لن يؤدي الى ما انتجه التنوير في ايران، بل شيء آخر يشبه تخبطنا.
&