من مفكرة سفير عربي في اليابان

لقد تشرفت خلال الاسبوع المنصرم، بحضور احتفالية جائزة نوبل اليابانية، والمعروفة بجائزة كيوتو، بعاصمة الثقافة التاريخية في اليابان، وهي مدينة كيوتو. وقد لاحظت في هذه الاحتفالية مدى وهم الحقيقة المطلقة، ليست فقط في السياسة، بل أيضا في العلوم الطبيعية، وليس فقط العلوم البيولوجية، بل أيضا العلوم الفيزيائية وعلوم الرياضيات المتطورة، مما زادت قناعتي بالحكمة الصينية: "تبحث عن الحقيقة، فليس هناك حقيقة." لتؤكد هذه الحكمة الصينية بأن الحياة كلها نسبية، بل وحتى الافكار نسبية، فكل شيئ في العقل الانساني معرض للخطئ، بل وحتى نظرنا يمكن أن يخدعنا بسهولة. فقد اكتشف العلماء يوما بعد يوم بأن الكثير من& فرضياتهم خاطئة، ولذلك من يحقق الإبداعات التكنولوجية هو من يكون مستعدا لتحدي الافكار التقليدية. وقد برزت هذه القناعات في احتفالية جائزة نوبل اليابانية هذا العام، حيث فاز عالمين فاضلين، اثبتا في مسيرتهم الحياتية والعلمية خطأ النظريات البيولوجية والفيزيائية والرياضية التقليدية التي عاصروها، والتي كانت سببا لمعاناتهم الطويلة، للوصول لاختراعات، غيرت مجرى التاريخ البشري في الطب والهندسة وفيزياء الذرة. وليسمح لي عزيزي القارئ سرد قصة جائزة كيوتو، ومعاناة العالمين الفاضلين الدان فازا بجائزة هذا العام.
لقد أنشاء المهندس الياباني، كوزو ايناموري، في عام 1985 مؤسسة ايناموري العالمية، لتكون مسئولة عن اختيار ثلاثة من خيرة علماء العالم سنويا، في العلوم الأساسية، والعلوم التكنولوجية الصناعية، والعلوم الروحية الإنسانية، لجائزة، سميت بجائزة كيوتو، يحصل الفائز على شهادة تقديرية، وميدالية ذهبية مرصعة بالجواهر الثمينة، بالإضافة لجائزة نقدية قيمتها ستين مليون ين ياباني. وقد بدأ هذا المهندس الياباني عمله بأحد الشركات الصغيرة، ولكن بعد أن تطورت خبراته العملية أسس شركة كيوسيرا اليابانية، والتي هي أمبراطورية تكنولوجية عملاقة اليوم، وقد خصص خمسمائة مليون دولار لمؤسسة جائزة كيوتو. ويشرح المهندس إيناموري، أهداف هذه الجائزة بقوله: "تعتمد جائزة كيوتو على الفلسفة التي أؤمن بها، وهي بأنه لن نطمئن على مستقبل البشرية، إلا من خلال خلق التوازن اللازم بين تطور العلوم المادية والعلوم الروحية. وأعتقد بأنه يجب خلق التوازن في ذات الإنسان بين ذكاءه الذهني، والعاطفة، والإرادة. فالحضارة التي تهتم بالذكاء الذهني، وتبخس قيمة العاطفة، والإرادة الإنسانية، هي حضارة آفلة. فقد تقدمت العلوم الطبيعية والتكنولوجية بشكل مدهش في القرن العشرين، ومع بداية القرن الواحد والعشرين، ستكون مسؤوليتنا الأساسية أن نرفع العلوم الروحية لنفس المستوى الذي حققته تلك العلوم، لنستطيع التعامل مع اختراعاتها بحكمة. وتختار اللجنة سنويا، ثلاثة من خيرة علماء العالم، الذين خلقوا في نفوسهم التوازن بين الذكاء الذهني، والعاطفة، وقوة الإرادة، والتي قدمت فلسفتهم وأرائهم العلمية للإنسانية اقتراحات فاضلة، لترفع من قدر أذهاننا وتشرفها."
وقد حصل هذا العام على جائزة التكنولوجيا المتقدمة، الدكتور روبرت لانجر، بروفيسور هندسة البيولوجية الطبية، بجامعة أم أي تي الامريكية، الذي حقق انجازين علمين كبيرين، فتحا الافاق لتطبيقات هائلة في العلاجات الطبية المتقدمة. فقد اخترع "نظرية السقالة" لخلق بنية بيولوجية من مادة، البولي لاكتك اسد، لزرع الخلايا العظمية والكبدية والعضلية والجذعية، للتشكل عليها الاعضاء، وتستطيع أجهزة المناعة في الجسم امتصاصها، بعد أن تؤدي وظيفتها. وقد نجح البروفيسور في هندسة وصناعة مختلف انسجة الجسم، والتي سهلت الابحاث في تطوير علاجات جديدة، وتجربتها على هذه الاعضاء المصنعة، قبل تجربتها على الحيوانات والبشر. وستسهل هذه التكنولوجية تشكيل أعضاء بشرية من الخلايا الجذعية. ويتميز اختراعه الثاني بتطوير نظام بروتيني لإيصال الدواء، بتركيز مكثف، لعضو أو ورم معين في الجسم البشري، ولمدة محددة، لذلك يعتبر الدكتور لانجر من أحد رواد تكنولوجية تجمع بين الهندسة والطب والصيدلة.
وقد تحدث الدكتور لانجر في كلمة قبوله للجائزة، فقال: "لقد ترعرعت في ولاية نيويورك، وانجذبت للعلوم الكيمياوية، وحينما بلغت الحادي عشر من العمر احببت التفاعلات الكيماوية، باطياف الوانها الجميلة، كما كنت مهتم بصنع المطاط. وقد درست الهندسة الكيماوية، وحينما تخرجت من الجامعة، وجدت جميع زملائي متوجهين للعمل بصناعة النفط، ومع أن الراتب كان عاليا، ولكنه لم يغريني، لأني كنت أحلم بعمل اساعد البشر في صحتهم أو تعليمهم، لذلك تقدمت لكلية الطب لاكمل ابحاثي. ولكن لم أوفق، لأن جميع المؤسسات الطبية اعتبرتني مهندس ليس له علاقة بالطب، وبعد محاولات يائسه، نصحني أحد الأصدقاء بأن أكتب لجراح معروف باختياراته الغريبة، وفعلا تواصلت معه فقبلني للعمل بمستشفي بوسطن للاطفال. وقد كنت في ذلك الوقت المهندس الوحيد في المستشفى، وحينها تعلمت الكثير عن تطبيقات الهندسة في مهنة الطب. وحينما انهيت تلك الوظيفة، تقدمت لوظيفة استاذ في كلية الهندسة، ومع الاسف لم يقبلني احد، لاعتقادهم هذه المرة بان ليس لدي خبرة في الهندسة، بعد أن التحقت بمؤسسة طبية. وبعد معاناة شاقة وطويلة، حصلت على وظيفة في دائرة التغذية بجامعة أم أي تي الامريكية، وقد كانت الامور سيئة جدا في البداية، حيث اعتبر الكثير من العلماء بأن اكتشافاتي السابقة كانت خاطئة، لأنها كانت ضد النظريات التقليدية، كمثل أبحاثي ضد السرطان، بتطوير علاج لوقف نمو الشرايين المغذية للخلايا السرطانية، والتي أصبحت اليوم من أهم أدوية معالجة السرطانات. وفعلا رفض مركز الأبحاث دعمي، في أول تسعة أبحاث قدمتها، بل نصحني رؤسائي بأن اترك القسم، وابحث عن عمل اخر. ولكني أصريت على الاستمرار في ابحاثي، كما استطاع بعض العلماء الاخرين اثبات صحة ابحاثي، وبعدها حصلت على الثقة والدعم اللازم لتجاربي. وقد استفاد الاطباء من كثير من ابحاثي اليوم لعلاج المرضى، وخلال مسيرة حياتي الطويلة، وبتحدياتها المتشعبة والمتعرجة، طورت فلسفة تؤكد على ضرورة ان يحلم الشباب أحلام كبيرة، لكي يغيروا العالم، وبالرغم من جميع الصعوبات التي سيواجهونها في حياتهم. كما عليهم ألا يتوقفوا عن العمل، لتحقيق هذه الاحلام."
كما فاز البروفيسور جامعة برنستون الامريكية، ادوارد وتن، على جائزة العلوم الاساسية، لثورته في تطوير العلوم الرياضية، باكتشافه نظرية الاوتار الفائقة. فبالنظر السريع لتطور نظرية "حقل الكم"، و "نظرية الاوتار"، تكشف عن دراما& تبرز خيرة العبقريات العلمية. فقد حلم العلماء بنظرية توحد جميع اطياف الميكانيكا، من نظرية الجسيمات البدائية، وحتى علم الكونيات، وفعلا تسلط هذه القصة الضوء على اكتشاف جسيمات بدائية جديدة، وتعقب نظريات الميكانيكا المبدعة. وقد لعب الروفيسور ادوارد وتن دورا قياديا في هذه الملحمة العلمية، خلال العقود الثلاثة الماضية. ففي امتداد الثورة الاولى للاوتار الفائقة، والتطور الكبير في نظرية الاوتار الفائقة التي بدأت في عام 1984، لعبت تحليلات الدكتور رتن الجيومترية في حقول المقايس، وفي نظرية حقول الجاذبية، دورا هاما، كما وضحت العلاقة بين نظرية الاوتار الفائقة والنموذج التقليدي للجزيئات في علوم الفيزياء. كما اقترح وتن في عام 1995 "نظرية- إم"& التي توحد الخمس اوتار الفائقة في نظرية واحدة. وقد ادى ذلك لثورة الاوتار الفائقة الثانية، والتي لعب فيها دورا قياديا، كما لعب دورا كبيرا أيضا في العلوم الرياضية الصرفة، وشجعت عبقريته العلمية الكثير من العلماء الشباب للتوجه نحو الابحاث الرياضية، وفتحت مجال جديد في الابحاث التي تجمع علوم الفيزياء والرياضيات، والتي تعتبر اليوم اساس الثورة التكنولوجية. وباختصار لقد لعبت ابحاث هذا العالم الجليل دورها في تغير التصور عن جزئيات المادة، فكنا نتصور بأن أصغر جزء في المادة هي الذرة، وبأن الذرة هي عبارة عن شكل ميكروسكوبي من النظام الشمسي، مكون من نواة مركزية مشكلة من كتلة من النيوترونات والبروتونات، وتدور حولها كتل الالكترونات. ولكن الابحاث العلمية بينت بأن كتلة البروتونات هذه تتكون من جسيمات اصغر، سميت بجسيمات "الكواك"، كما أن الالكترونات تتكون من جسيمات اصغر سميت بجسيمات "البوزن". وقد ادت نظرية الاوتار الفائقة لاكتشاف أن هذه الجسيمات ليس كتل جامده، بل هي جسيمات على شكل أوتار متحركة، تتفاعل فيها عوامل جاذبية مختلفة، لتلعب دورها، من خلال ذرة الجسيمات الدون الذرية، والتي دمجت بين الخاصية الجسيمية، والخاصية الموجية، ليظهر مصطلح ازدواجية الموجة-الجسيم، لتتوضح منها فاعلية الموجات الكهرومغناطيسة، والتي تعتمد على مبادئها الكثير من التكنولوجيات المتطورة من الكومبيوتر، وحتى الانترنت والتلفون النقال.
وتحدث البروفيسور وتن في كلمته بقبول الجائزة فقال: "لقد كنت مولعا بعلم الكونيات منذ نعومة اظفاري، ولم يكن ذلك غريبا، حيث ترعرعت في الخمسينيات، حينما كان الجميع ملهما بعلوم الفضاء. وقد كنت املك تلسكوبا صغير، ابحث فيه عن كوكب المريخ، وحينما كنت في الحادية عشر من عمري، الهمتني علوم الرياضيات. وقد كان طريقي فيها متعرجا، وحينما بلغت الحادي والعشرين من عمري، قررت الانتقال لدراسة علوم الفيزياء. فقد كنت معجبا بعلوم الجزئيات، كما كانت مسرعات الجزيئات تنتج ظواهر مدهشة خلال عقدين من الزمن. كما برزت اكتشافات جديدة في علوم الذرة، حينما كنت في السنة الثانية من الجامعة. فقد انتشرت نظريات حول الجسيمات، كتكون الذرة من الكترونات وبروتونات ونترونات، وبرزت بعدها نظريات الجسيمات دون الذرة، كالكواك والبوزون. بل توجهت النظريات لما بعد نظرية الأوتار، لتربط مفاهيم الرياضيات الحديثة، بالنظريات الفيزيائية الحديثة، وقد كانت هذه التحولات بداية لمستقبلي العلمي. ومن الاشياء التي تعلمتها في رحلتي العلمية، هو بأنه لا يمكن دراسة العلماء لهذه الابحاث بعقل مطلق، بل يجب أن نملك عقل متفتح مستعد لتقبل اي فرصة موءاتية، لاكتشاف اختراع مبدع جديد. بل في بعض الاحيان، تكون المعضلة اكبر صعوبة من أن تنحل في ذلك الوقت من التاريخ، واحيانا قد يكون السؤال ليس السؤال المناسب لحل المعضلة، فالحياة بها مفاجئات كثيرة. ولكي يقدم الباحث الافضل في الابحاث العلمية، يحتاج لأن يكون متفتح العقل للأفكار والأسئلة الجديدة. وطبعا من السهل قول ذلك نظريا، وليس عمليا، وخاصة مع كبر السن، ولكن على عقولنا ان تكون منفتحة دائما." ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان