وضعت أسس النظام العرقي-الطائفي الذي تسيد الواجهة السياسية في عراق ما بعد 2003 في مؤتمر لندن للمعارضة العراقية الذي أرادت قوى التحالف أن يكون الواجهة السياسية لمرحلة ما بعد صدام حسين، وقد وضعت بصمات التأسيس لهذا النظام القوى الكردية التي كانت ترتبط مع الحكومات والدوائر الغربية بعلاقات متجذرة تعود الى ستينيات القرن الماضي، وكان هدف الأكراد بالدرجة الاساس هو خلق البيئة السياسية والإجتماعية الداعمة لتوجهاتهم بالإنفصال عن العراق وتحقيق دولتهم المستقلة التي أخذت ملامحها تتبلور بعد حرب عام 1991، ولم تعترض الأحزاب الإسلامية السياسية على هذا الطرح لأن معارضتها للنظام تنطلق أساسا من بعد طائفي مما يعني ضمنا إنها تعارض نظام صدام حسين لأنه "نظام سني" وهذا ما تناقضه حقائق كثيرة منها:

إن أول فعل إجرامي إرتكبه صدام حسين عند تسلمه مقاليد الحكم في 17 تموز 1979 والذي كان يجب أن يحاكم عليه قبل اي جريمة أخرى-إن كان ثمة من يسعى حقيقة لبناء دولة خالية من التوجهات الطائفية- هو إعدامه للعشرات من الكادر المتقدم في الحزب والدولة في مجزرة قاعة الخلد وأكثرهم من الطائفة السنية.

حدثت أكثر من محاولة إنقلاب ضد نظام صدام حسين إشترك فيها ضباط سنة وشيعة كباركان أهمها محاولة عام 1996 التي تم كشفها وإعدام جميع من إشترك فيها والذي تجاوز عددهم المئتين، بالإضافة طبعا لحركة محمد مظلوم الدليمي التي جلبت على قبيلة الدليم سخط وإنتقام صدام منها فسجن وأعدم العشرات من ابناءها بتهم شتى تبدأ بالإشتراك مع محمد مظلوم ولا تنتهي بتهمة التستر على نشاطه وإخفاء المعلومات.

ثمة مفهوم خاطيء رسخته قوى المعارضة الإسلامية "الشيعية" من أن ضباط الجيش والقادة الكبار هم من "السنة" فيما الجنود والرتب الصغيرة هم من "الشيعة" ووجدت هذه المعلومة حتى في مذكرات مستشارة الأمن القومي الأمريكي كوندليزا رايس وغيرها من كبار المسؤولين الأميركان، وهذه معلومة خاطئة بالمرة فأنا استطيع تعداد اسماء عشرات الضباط الكبارزمن النظام السابق بمستوى الفريق الركن عبد الواحد شنان ال رباط، بل كان أحدهم يحتل منصب المسؤول الأول عن حمايته وأقصد بذلك "صباح ميرزا" (الشيعي-الكردي) فيما كان التجنيد الزاميا يشمل الجميع بدون إستثناء الا أبناء صدام نفسه والدائرة القريبة جدا منه.

لم يسلم من بطش صدام حسين حتى أزواج بناته (صدام كامل وحسين كامل) فقتلهما بعد أن منحهما الأمان فرمل بناته ويتم أبناءهن، وكان يمكن أن تكون هذه الحادثة عنصر قوة يستدل بها على بطشه بالجميع بما في ذلك "عائلته" لكن ضيق النظرة الطائفية قصرت الموضوع على بعده الطائفي ليس إلا.

لم يكن "السنة" من يحكمون زمن صدام حسين بل كان شخص واحد مهووس ببناء مجده الشخصي على حساب العراق والعراقيين،محسوب إسميا على "أهل السنة" لأنه من عائلة سنية المذهب وليس من المنطقي أن يؤخذ جميع أبناء السنة بجريدة هذا المجنون الذي لدى الشيعة أمثاله ربما بالمئات يرتكب بعضهم جرائم تصفيات جسدية على الهوية،لا يختلفون كثيرا عن خلق وممارسات صدام حسين الا من حيث إنتسابهم إسميا للمذهب الجعفري.

لم تكن لدى جمهور الشيعة مشكلة مع "طائفة" من يحكمهم بل لديهم مشكلة بتحقق شرط العدل الذي هو اساس الملك، ولنا في تجربة الزعيم عبد الكريم قاسم مثالا واضحا فهو زعيم سني جمهوره ومؤيديه من الشيعة أكثرمما لديه من جمهور من السنة لأنه تعامل معهم بمبدأ المساواة والعدل ولم تخضع الوظائف والدراسة في زمنه على تفضيل على أسس طائفية كما حصل خلال الأنظمة التي أعقبته.

ثمة العشرات من الشواهد والأدلة التي يمكن إيرادها هنا والتي تثبت خطل العمل السياسي الذي إعترى أحزاب المعارضة العراقية -الكردية والإسلامية خصوصا- زمن النظام السابق والتي أسست للنظام العرقي الطائفي قبل وبعد سقوطه في 9 نيسان 2003،والذي بات يترسخ يوما بعد يوم في العراق بعد أن إتفق مؤسسوا هذا النظام على إبقاء الوضع على ماهو عليه ترسيخا لبقاءهم في السلطة الذي أنتج وأوجد هذا الشرخ العرقي-الطائفي في المجتمع العراقي الذي لم يعتد ابناءه النظر الى بعضهم من خلال إنتماءهم المذهبي والقومي إلا بعد مجيء هؤلاء وبناءهم سلطتهم وتقسيهما بينهم حصصا فيما بات يعرف ب"المحاصصة" التي يصرح بها علنا و دون إستحياء،بل قد عمل مؤسسوا هذا النظام على أن لا يسمحوا بظهورأي تحدي لوجودهم من خلال إقرار دستور لا يخدم الا سياسة تفتيت الدولة العراقية على أسس عرقية-طائفية في عدة مواد منه مثل تلك التي تعطي لقانون الإقاليم العلوية على الدستور عند التنازع بينهما في شذوذ تام عن الدساتير المعروفة في العالم، وعبر إيجاد مفوضية إنتخابات غير مستقلة حيث لكل كتلة أو حزب ممثل لها في مجلس مفوضيتها، وإقرار قوانين إنتخابات تسفر نتيجتها في كل مرة عن فوزهم أنفسهم رغم إن ثمة من حصل على أصوات أكثر من مجموع عشرة من نوابهم من غير أحزابهم لكنهم لم يفوزوا، في لعبة مخزية واضحة للعيان للتمسك بالسلطة.

أمام هذه الحالة التي تتجذر يوما بعد يوم والتي شهدنا عدم جدية وصدق المشتركين في تأسيسها في نيتهم الخروج من المأزق الطائفي الذي وضعوا البلاد فيه لابد أن نجيب عن سؤال مهم "ما العمل؟" فالإعتماد على وجود "نية" لدى مؤسسي نظام "الفوضى" في العمل على إنتاج "نظام" موضوع يخالف المنطق وطبيعة الاشياء، ولا تدعمه الوقائع على الأرض، فأغلب القوى التي إدعت خروجها عن نظام المحاصصة العرقي-الطائفي إنتظرت أن يقدم إئتلاف دولة القانون"الشيعي"مرشحهم لرئاسة الوزراء بعد إنتخابات 2014 فيما كان يمكن أن تأتلف باقي الأحزاب والكتل لتشكيل "الكتلة الأكبر" وينتهي الموضوع خلال ايام بدل إنتظارعدة أسابيع والبلاد تحت تهديد الإرهاب المباشركما حصل عند تسمية حيدر العبادي رئيسا للوزراء وتشكيل الكابينة الوزارية على نفس الاسس العرقية-الطائفية التي حدثت في المرات السابقة.

لا تندرج محاولات بناء قوات حرس لكل محافظة ضمن ملامح الحل لسبب بسيط هو: مادام الساسة غير قادرين على الخروج من خنادقهم العرقية-الطائفية فلابد أن يفضي هذا الحل الى المزيد من الإقتتال بينهم وترسيخ النهج الطائفي بدل تحطيمه، بل هو حل يرسخ سلطتهم من خلال إيجاد عامل الخوف لدى الجميع من الجميع، بكلام أخرهو ترسيخ للطائفية وليس حل لها. فإزاء هذا الوضع الذي يزداد تفاقما يوميا، وفي ظل تهديد يستهدف وجود وكيان الدولة العراقية ينغي أن لا ينطلق جوابنا لسؤال"ما العمل؟" من نفس المنطلقات والقواعد التي اسست للنظام العرقي-الطائفي في عراق مابعد 2003، وأن يبتعد الجواب عن مفردات الخطاب السياسي السائد مثل (المظلومية، التهميش، التوازن، الشراكة، المحاصصة) وغيرها مما أصدع رؤوسنا خلال السنوات السابقة من مفردات ترسخ القبول والإقرار بالنهج العرقي-الطائفي للممارسة السياسية بإستخدام سياسي مهين للدين الإسلامي ومذاهبه المختلفة.

لابد للحل أن يبدأ بتحطيم أسس النظام العرقي-الطائفي الذي بني عليه النظام وذلك بالدعوة الى تغييرأو تعديل الدستورأولا بما يضمن بناء دولة مدنية حقيقية وفصل الدين عن السياسة الذي هو مطلب يصب في صالح الدين قبل أن يكون مطلبا سياسيا، فقد إنسحب الفشل السياسي لأحزاب الإسلام السياسي في بلدان ما بات يعرف بالربيع العربي على الدين في كل من مصر وتونس وليبيا، ولغرض أن لا تتكررالتجربة في العراق على النخبة الدينية قبل السياسية أن تدعو الى فصل الدين عن السياسة خاصة في حالتنا العراقية حيث الفساد شمل الجميع ولم يستثن أحدا من أتباع أحزاب الإسلام السياسي الشيعي والسني على حد سواء.

ولابد من إيجاد قاسما مشتركا للعراقيين على إختلاف قومياتهم ومذاهبهم ودياناتهم يستجيب لحاجاتهم ويأخذ بنظر الإعتبارالتجارب التي مرت بالبلاد ووجوب تلافي أخطاءها، وينطلق من الحاجة الفعلية للمواطن العراقي في الوقت الراهن. ولا أعتقد إن المواطن البسيط بحاجة الأن لمزيد من الأيديولوجيات التي لم تجلب له غيرالإقتتال والتخوين والمطاردات والسجون والدمار، بل هو بحاجة فعلية لبرنامج "تنموي" يبتعد به أبعد ما يكون عن الأيديولوجيات غير المنتجة، برنامج يستجيب لحاجة البلد للبناء والتنمية العملية العلمية يأخذ بنظر الإعتبارحجم الدمارالذي لحق بالبلاد نتيجة الحروب الخارجية والداخلية التي عصفت بالبنى التحتية الاساسية للعراق، برنامج تنموي يعبيء الشباب جميعا في جهد جماعي للبناء ويبعدهم عن الجماعات المسلحة ويشغل تفكيرهم بعمل منتج، برنامج تنموي لا يستخف بالوقت كما يحصل الأن في تنفيذ المشاريع، بل بالتعامل مع الوقت كقيمة عليا لها قيمة أعلى من المال لأنها تتعلق بأعمار الناس وطموحاتهم، ولأن الدمار الذي لحق بالبلاد إستثنائيا بحجمه وإتساعه يتطلب اليات ونمط تفكير إستثنائيان في التعاطي معه.

ليس مؤملا أن يقوم أحد السياسيين المشتركين في السلطة الأن بهذا المسعى، بل أظنهم سيضعون العراقيل أمامه لأنه يستهدف الاساس العرقي-الطائفي الذي بني عليه النظام بعد السقوط 2003 والذي جلب لنا الإقتتال الطائفي الذي وجد من يغذيه من وراء الحدود، لأن الطائفة بطبيعتها متجاوزة للحدود فلابد أن تشمل ساحة حربها حدودها التي تتجاوز حدود العراق، لذا ستكون من مصلحة كل القوى العربية والإسلامية الوقوف بوجه التمدد للمشروع العرقي-الطائفي في العراق ودعم التوجهات الليبرالية التي تسعى لبناء دولة مدنية تلغي اسس التخندق الطائفي بإعتماد "المواطنة" العراقية هوية جامعة لكل العراقيين دون الهويات الفرعية التي يجب أن تبقى خصوصيتها محل إعتبارلا يخل بمبدأ المساواة بين العراقيين دون تمييز على اساس ديني أو مذهبي أو قومي أو جنسي.