&أتذكر أنه في شهر مارس من عام 2009م، فاجأ الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" الإيرانيين حكومة وشعبا وكذلك دول العالم برسالته الشفهية إلى الإيرانيين يهنئهم فيها بالسنة الإيرانية الجديدة (النيروز)، ويحثهم فيها كذلك على إنهاء ثلاثة عقود من العداء وعرض عليهم إجراء حوار مباشر، حيث قال موجها حديثه إلى القادة الإيرانيين: "هناك خلافات خطيرة إزدادت مع مرور الوقت، إدارتي ملتزمة الآن بممارسة دبلوماسية تعالج كل المشكلات التي نواجهها، والسعي لإقامة علاقات بناءة بين الولايات المتحدة وإيران والأسرة الدولية. هذه العملية لن تتقدم بالتهديد ونسعى بدلا من ذلك إلى حوار نزيه قائم على الإحترام المتبادل. انتم ايضا أمامكم خيار، الولايات المتحدة تريد أن تأخذ جمهورية إيران الإسلامية مكانها الصحيح بين الدول. أنتم تملكون هذا الحق، لكنه يأتي بمسؤوليات حقيقية ولا يمكن شغل هذه المكانة بالإرهاب ولا بالأسلحة بل بالتحركات السلمية التي تبرهن على العظمة الحقيقية للشعب والحضارة الإيرانية. مقياس هذه العظمة لا يتجسد في القدرة على التدمير بل في قدرتكم على البناء والإبداع.&

وجاء الرد سريعا على هذه الرسالة من رأس الهرم السياسي الإيراني المرشد الأعلى "السيد علي خامنئي" حيث قال: "تغيروا وسيتغير موقفنا، إننا نتصرف بشكل منطقي وليس بشكل عاطفي ونتخذ قراراتنا بعد حسابات دقيقة". كانت تلك في وقتها إشارة واضحة إلى رغبته في تحليل مضمون الرسالة قبل تحويلها إلى خطة عمل، كما أنها إشارة إلى "أوباما" من "خامنئي" أنه هو صاحب السلطة العليا في موضوع العلاقات الإيرانية – الأمريكية وأنه هو من يتخذ القرارات الكبرى في إيران. وقتها ربما كان "خامنئي" يطمح أن يتبع "أوباما" مبادرته تلك باتخاذ بعض الخطوات المشجعة على فتح باب الحوار، منها على سبيل المثال: الكف عن التحريض ضد النظام الحاكم في طهران، والإفراج عن بعض الأرصدة المالية الإيرانية المحتجزة لدى البنوك الأمريكية منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979.&

لم يكن طموح "خامنئي" من فراغ، فقد ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" وقتها نقلا عن مسئولين ودبلوماسيين لم تورد اسمائهم أن من بين المبادرات التي تدرسها الإدارة الأمريكية رسالة مباشرة يوجهها "أوباما" إلى "خامنئي" بخصوص شروط تطبيع العلاقات بين البلدين، على أن تسبقها مبادرة أمريكية برفع حظر الإتصالات المباشرة بين دبلوماسيين أمريكيين غير كبار ونظرائهم الإيرانيين عبر العالم. هذه الرسالة أو الرسائل التي كان يفكر "أوباما" إرسالها إلى "خامنئي" في عام 2009 تأخرت ست سنوات حيث لم ترسل إلا خلال الربع الأخير من العام الحالي، تغيرت خلالها أشياء كثيرة في المنطقة وتعقدت وتشعبت القاضايا السياسية والإقتصادية العالقة بين البلدين، أهمها في إعتقادي الشخصي: زيادة النفوذ السياسي الإيراني وإتساعه في المنطقة العربية مقابل تقهقر الولايات المتحدة من خلال إنسحابها المبكر من العراق وقريبا من أفغانستان.

المطالب الأمريكية من النظام الحاكم في طهران معروفة منذ فترة طويلة، وهي تتلخص في الآتي: 1- أن تتعهد إيران بعدم تطوير برنامجها النووي لأغراض عسكرية. 2- الكف عن تهديد أمن إسرائيل والتحريض عليها. 3- أن تتعهد إيران بعدم عرقلة مساعي السلام الدولية لحل مشكلة القضية الفلسطينية، وعدم التدخل في الشئون الداخلية لدول الجوار.&

وفي المقابل تطالب إيران الحكومة الأمريكية بما يلي: 1- أن تتعهد أمريكا بعدم التعرض للنظام الحاكم في طهران، وعدم المساس بوحدة وسلامة الأراضي الإيرانية. 2- الإعتراف الدولي (والأمريكي خاصة) بدور إيران الإقليمي ومصالحها الإستراتيجية في المنطقة. 3- حق إيران في الحصول على التكنولوجيا النووية لأغراض سلمية، والسماح لها بتخصيب اليورانيوم على أراضيها تحت إشراف دولي على ألا تتعدى درجة التخصيب المستوى الكافي لإنتاج وقود نووي للأغراض السلمية. 4- شطب إيران من قائمة محور الشر ورفع العقوبات الإقتصادية، والإفراج عن الأرصدة المالية المحتجزة في البنوك الأمريكية.

النظام الحاكم في إيران لا يثق بالقوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة، ولا يزال يعتقد أنها تسعى بجد إلى تغييره. ولا يزال الإيرانيون بشكل عام يتذكرون الإطاحة بنظام محمد مصدق في عام 1953 من قبل وكالة الإستخبارات الأمريكية وأجهزة المخابرات البريطانية وإعادة الشاه محمد رضا إلى الحكم، ويعتبرون ما حدث إذلالا وطنيا لن يسمحوا بتكراره تحت أي ظرف. كما أن إحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا في عام 2003 شكل صدمة كبرى لإيران، ولا يزال الإيرانيون إلى اليوم يقارنون بين العراق وكوريا الشمالية التي لديها سلاحا نوويا، ويجهرون بالقول: لو أن العراق كان حقا يملك سلاحا نوويا لما تجرأت الولايات الأمريكية على مهاجمته عوضا عن إحتلاله. كما يقارن الإيرانيون أنفسهم بدول في محيطهم الجيوبولوتيكي لديها القدرات النووية كالهند وباكستان وكوريا الشمالية ويعربون عن إستغرابهم من تقبل الولايات المتحدة وحلفاءها لهذه الدول ومعارضتهم إيران الدولة ذات الحضارة والتاريخ العريقين.

يبدو أن أغلب المطالب والمطالب المضادة من الطرفين يمكن الوصول إلى إتفاق بشأنها، ويبقى المطلب الإيراني بدور إقليمي في المنطقة العربية هو الأصعب من بين هذه المطالب لعدم وضوحه حتى الآن للأطراف التي حتما سوف تتأثر به. السياسة الأمريكية في المنطقة العربية عموما وفي الخليج على وجه الخصوص تقوم على مبدأ عدم السماح لأي دولة في المنطقة بأن يكون لها موقع متقدم على اللاعبين الإقليميين الآخرين وذلك للحفاظ على التوازن الإقليمي ومصالحها في المنطقة. غير أن إيران تصر دائما على أن يكون لها دورا إقليميا أكبر يتناسب - كما تدعي - مع إمكانياتها الجغرافية والتاريخية والسياسية والإقتصادية، أي الدور الذي أعطيا للشاه في السبعينيات من القرن الماضي.&

خلال الجولة الأخيرة من المفاوضات المتعلقة بالملف النووي الإيراني في فيينا، أكد الطرفان الأمريكي والإيراني أنهما ملتزمان العمل الجدي لإيجاد حل سلمي للملف النووي الإيراني والخلافات الأخرى المرتبطه به، وبالرغم من إقرار الوزيرين الأمريكي "جون كيري" والإيراني "محمد جواد ظريف" بوجود بعض المسائل العالقة التي يجب حلها، إلا أنهما وصفا الإجتماعات بالإيجابية والمتقدمة وأن قرارهما تمديد مهلة التوصل إلى إتفاق كان سياسيا أكثر من كونه تقنيا. ولاحقا أكد "جون كيري" قائلا: "إن العالم اليوم أكثر أمانا لأن إيران أوقفت برنامجها النووي".&

السؤال: هل تكون المقايضة بين البلدين هي زيادة النفوذ الإقليمي لإيران مقابل التخصيب بنسبة 5% للأغراض السلمية وتحت الإشراف الدولي المباشر؟

هذه االمقايضة تحقق رغبات كل من الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" والرئيس الإيراني "حسن روحاني". فإذا تمت، فإن بإمكان أوباما الإدعاء بأنه أنجز عملا تاريخيا للعالم وهو: إقناع إيران سلميا بتخليها طواعية عن تطوير وإمتلاك السلاح النووي لأغراض عسكرية الذي أثار حفيظة دول المنطقة العربية وبعض دول العالم. أما روحاني فبإمكانه الإدعاء بأنه: أخرج إيران من عزلتها الدولية، وأنقذ إقتصادها من الإنهيار بسبب العقوبات الإقتصادية، وضمن لها الدور الإقليمي الذي يليق بمكانتها حسب إعتقاد الشعب الإيراني.&

هذه مجرد قراءة سياسية متواضعة لموضوع معقد بسبب العداء المستحكم وإنعدام الثقة بين طرفيه الرئيسيين قد تصيب وقد تخطئ، وقد تكون الشهور المقبلة حبلى بالمفاجآت.&

&