&في العصر الحديث نال العراق قسطا من الحضارة الإنسانية بفضل الحكم الوطني غير الديني؛ الذي وضع لبناته الأولى الملك فيصل الأول، واستمر في نمو هادئ حتى 14 تموز،1958 حيث حطمته جزمة العسكر الطائشة الرعناء، ولعبت به ما شاءت، حتى وقع في قبضة البعث الذي استحوذ من خلاله صدام على كل شيء، وعاث به فسادا ودموية وخرابا!

ولعقود طويلة ظلت الودائع الحضارية التي أرساها ذلك العهد جلية واضحة، فكانت بغداد ومدن أخرى، كالبصرة والموصل والنجف والناصرية والحلة وغيرهم، قبلة للجمال والثقافة والعطاء الحر، واحترام المرأة، حيث خرجت منها أجمل وأشجع الإبداعات في الشعر والرواية والمسرح والفن التشكيلي والسينما، وتأسست في بغداد أول محطة تلفزيونية في الشرق الأوسط، وكانت المرأة تسير في شوارعها سافرة حرة آمنة،بينما نجد هذه المدن اليوم قد سقطت باسم المقدسات في شراك رجال الدين المتعصبين، يرصدون حركاتها وسكناتها منهين كل ما حققه الأسلاف فيها من مظاهر المدنية، فارضين عليها نمط حياتهم الضيقة المريضة، كل همهم خضوعها لسلطة أصحابهم وشركائهم من قادة الإسلام السياسي!

حكام اليوم صنعوا الدولة المتدينة المقدسة التي لا تعرف من شعائر الدين سوى شكلياته من أذان يؤدى في التلفزيون وفق المحاصصة الطائفية ( ثلاث مرات على الطريقة الشيعية، ومرتين على الطريقة السنية) وصلاة وخطبة الجمعة التي تنطلق منها التصريحات السياسية لا الدعوات الروحية. أما ما يتحدث عنه الدين من قيم الصدق والنزاهة والعفة والأمانة والاستقامة فهي ملغية أو مؤجلة حتى إشعار آخر, ثم يروح قادة الدولة يتقاطرون على مقر المرجع الديني علي السسيتاني ليتلقوا توجيهاته كما يقولون، وهم يريدون من وراء ذلك الحصول بطريقة سهلة على ولاء أتباع المرجع، وهم كثر!

ترى لماذا لا يحصلون على ولاء الناس وحبهم بالأعمال الجيدة والسيرة الحسنة؟ ثم لماذا لا يفهموا الناس؛ هل أصبحت الدولة العراقية بمرشد أعلى، وبولاية فقيه كما في إيران؟وهل هي دولة دينية أم علمانية أم مشوهة متورمة خاوية كما تقول كل المرايا؟ وإذا أصروا على ممارسة الخضوع للولي الفقيه، لماذا لا يسن ذلك بقانون دستوري في البرلمان ليعرف الشعب من هو صاحب السلطة العليا، والكلمة الأخيرة النافدة في البلاد؟

في الجهة الأخرى يبحث الدواعش من السنة عن مقامات ومعالم المقدسات ليهدموها لأسباب ربما يعرفونها وحدهم، ولكنها لا تعدو عن فهم مشوه تعيس لمعنى المقدس! ولم تسلم من أحقادهم ومتفجراتهم كنائس المسيحيين،الذين هم جزء أساسي في كيان العراق وروحه وذاكرته، ومعابد الأزيديين المعروفين بطبيعتهم المسالمة وتأديتهم لطقوسهم دون ضجيج وصخب، أو إساءة للآخرين!

هم يهدمونها فقط لكي يرونها خرائب وأطلالا، فهم مرضى في عقولهم وأرواحهم لا يجدون متعتهم إلا بمشهد الأجساد المقطعة، والبيوت وقد تحولت إلى خرائب وأحجار، مقابل ذلك توسعوا في نشر مقدساتهم الغامضة المجنونة والتي جعلوها في تعارض تام مع كل مظاهر الحياة الحضارية، وباختصار شديد أنهم يقدسون الظلام والموت، ويقاتلون النور والحياة، لذا فإن الخلاص من الدواعش وبأسرع وقت أولى شروط بقاء العراق على قيد الحياة!

ثمة نمط آخر من المقدس، يتحقق بالطعن برموز ومثل الطائفة الأخرى القائمة بالحدود المشروعة والواضحة، عبر خطب على المنابر وفي المواكب والفضائيات، ومواقع التواصل الإلكتروني، ظهر جانب خطير منها في مظاهرة طافت قبل فترة شوارع الأعظمية تلعن عائشة وعمر! من الجهة الثانية تجد داعش أنها تحقق مقدسها في تفجير مواقع أئمة في النجف وكربلاء والكاظمية، كما هددت علنا وفعلت في الكاظمية بقصف وتفجيرات إجرامية مسعورة تكاد تكون متواصلة!

لعبة التراشق بالمقدسات يمكن مشاهدتها في الملاعب الطائفية في العراق، وربما يجد البعض فيها متعة تفوق متعة مشاهدة الألعاب الرياضية المحرمة لدى بعضهم، لكنها تحولت الآن إلى حرب مقدسة!

كل شيء في العراق الآن أضحى مقدسا، إلا الإنسان، وحقوق الإنسان، والقانون، والمال العام، فهذه كلها مدنسة منتهكة مباحة، لا قدسية لها! ولماذا تقدس والحياة سجلت باسم الموت والأموات؟ بذا تحولت المقدسات إلى سرطان مقدس مستشر، يحتاج العراق اليوم إلى معجزة للشفاء منه!

المقدس غير الضروري لا يبقى مجرد كائن معنوي، بل ينتقل إلى جسد الإنسان وروحه وعقله فلا يتركه إلا جثة متحركة لا يرجى منها عمل أو عطاء، واليوم توالت على جسد العراق والعراقيين مقدسات باسم الشيعة، ومقدسات باسم السنة لا تحصى ولا تعد، بعضها مفهوم ومشروع، ومعظمها غير مفهوم وغير مشروع!

للخلاص من الإرهاب، لا بد من تصفية قاعدته الفكرية والنفسية! بدون ذلك لا جدوى من الطائرات والدبابات، وكل الحشود البشرية، إذ هو ما أن يقمع حتى يعود لينمو من جذوره!

وبدون التعرض لأساسيات الأديان والمذاهب لا بد من طرح سؤال هام جدا: كيف يمكن مطالبة المتعصبين من السنة ومراجعهم بالتخلي عن كل مظاهر التحجر الديني، والفكري والتذرع بالمقدس والتوسع في نشره، بينما يظل متزعمو الشيعة ومراجعهم ماضين بشكل محموم في توسيع دائرة المقدس والغلو في طقوسه، دون ضرورة دينية جوهرية؟

ليس من العقل ولا من العدل؛ المطالبة بتصفية القاعدة الفكرية أو الحد منها هنا، والإبقاء عليها طليقة متفاقمة هناك!

لكي يسقط الفكر الداعشي باسم السنة وأساطيره وخرافاته وطقوسه وامتداده الإرهابي ؛ لا بد من إسقاط الفكر الداعشي باسم الشيعة بكل خرافاته وأساطيره وطقوسه وامتداده الإرهابي، وإلا فإن كل الجهود لدحر الإرهاب ستذهب سدى؟

القسم الثاني