هناك عدد قليل جدا من الشخصيات العربية القادرة على تكوين نظرة شاملة لما يدور في الشرق الأوسط. إحدى هذه الشخصيات الملك عبدالله الثاني الذي يتجرأ على قول الكلام الذي يهرب منه كثيرون موجودون في موقع المسؤولية.
من يحتاج إلى تأكيد لذلك، يستطيع قراءة الحديث الذي ادلى به عبدالله الثاني إلى الصحافي المعروف تشارلي روز على هامش زيارته الأخيرة لواشنطن حيث التقى الرئيس باراك أوباما.
تكمن أهمّية الكلام الذي يصدر عن العاهل الأردني في أنّه من النوع المختلف. مختلف أوّلا بمستواه ووضوحه وكونه لا يبيع الأوهام ولا يرفع شعارات براقة تستهدف غشّ الناس العاديين وتخديرهم. رأيه في كلّ ما يجري مباشر وصريح في الوقت ذاته، خصوصا عندما يتحدّث عن الأزمة العميقة التي تمرّ بها المنطقة.
من غَير عبدالله الثاني يستطيع قول: "نواجه مشكلة داخل الإسلام. علينا توليها بانفسنا وأن ننهض ونقول الحق وندين الباطل. يجب أن نقول أنّ هذا لا يمثل ديننا، بل هو الشر بعينه وعلينا جميعا أن نتخّذ هذا القرار. يجب أن نقف ونقول هذا هو الخطّ الفاصل. من كان يؤمن بالحقّ، فليقف إلى جانبنا ومن لا يؤمن به، عليه أن يتخذ القرار بالوقوف في الجانب المقابل. إنّها معركة واضحة بين الخير والشرّ وهي معركة ستستمرّ لأجيال قادمة. كما قلت للرئيس بوتين في الواقع. إني أعتقد إنّها حرب عالمية ثالثة بوسائل مختلفة".
خلاصة الحديث الطويل للعاهل الأردني، وهو حديث يجيب فيه عن ستّة وثمانين سؤالا أن على العرب تحمّل مسؤولياتهم بدل إلقائها على الآخرين. تكون البداية في الإعتراف بأنّ لا وجود لشيء اسمه اسلام معتدل واسلام متطرّف. الأسلام دين التسامح والإعتراف بالآخر أوّلا وأخيرا. لذلك يقول: "أنا مسلم، ولا داعي لأن تصفني بأنّي مسلم معتدل. أنا مسلم فقط، ولا أعلم ما يمثّله هؤلاء الإرهابيون أو فكرهم". إنّه بكل بساطة رجل من دون عقد ليس لديه ما يستحي به، خصوصا بعدما تجاوز الأردن ما يُسمّى "الربيع العربي" وكشف حقيقة الإخوان المسلمين الذين ركبوا موجة ثورة الشباب العربي على انظمة بالية.
كذلك، ليس غير عبدالله الثاني من يتجرّأ على الخوض في مشكلة اسمها مشكلة العلويين في سوريا. لذلك& يشير في هذا المجال إلى أنّ هناك دورا مهمّا للروس على صعيد الضامن لمستقبل العلويين والحامي لهم".
أمور كثيرة يكشفها الحديث. من بينها أن روسيا تعاني أكثر من غيرها من الوضع السوري ومن تدفق المقاتلين من الشيشان على سوريا.
ليس غَير عبدالله الثاني من يستطيع القول أن "أولوية ايران هي لحزب الله أكثر من النظام السوري. ولكن أعتقد أن الضامن عندما يتعلّق الأمر بالمفاوضات هو الروس أكثر من الإيرانيين". هل من رهان أردني على الدور الروسي وعلى امكان حصول تغيير في موسكو يجعل بوتين& أقلّ تمسّكا بالنظام السوري الذي يُدار من طهران؟
يبحث العاهل الأردني عن حل سياسي في سوريا "حيث هناك حربان". يعترف بصعوبة الوصول إلى الحلّ. يعترف ضمنا بضرورة حصول التغيير في سوريا وبضرورة المرحلة الإنتقالية وبالتقصير في حقّ المعارضة. يقول أن "أحدا لم يستمع لي عندما طرح موضوع القوى المعتدلة على الطاولة".
لا تفاؤل ولا تشاؤم في الحديث، بل حقيقة مرّة لا بدّ على كلّ من يتعاطى في الشأن الشرق الأوسطي تقبلّها في حال كان المطلوب الإقدام على خطوة ما ذات طابع إيجابي في أي اتجاه كان.
من بين ما يتضمّنه الحديث& "أن داعش تهديد دولي، علينا أن ننظر أيضا إلى الوضع في سيناء وليبيا". يدعو إلى اعطاء الأولوية للتعامل مع "داعش" في سوريا والعراق". مضيفا أنّه "يأمل في أن يتوفّر لدينا عاجلا وليس آجلا منهج استراتيجي للتعامل مع كلّ هذه التنظيمات وهي كلّها واحدة في الحقيقة. إنّها تشارك في الفكر نفسه على الرغم من اختلاف اسمائها". لم ينقص الحديث سوى تأكيد أن في اساس كلّ هذه المدرسة الفكرية التي لا علاقة بالإسلام الحقيقي الفكر المتخلّف للإخوان المسلمين الذين عرف الأردن كيف التعاطي معهم ووضعهم عند حدّهم.
من مشكلة أهل السنّة في العراق وصولا إلى الأكراد، إلى دعم مصر "أم الدنيا"، لم يترك عبدالله الثاني سؤالا لم يجب عنه. بالنسبة إليه، "لا بدّ من التواصل مع العشائر السنّية في العراق من دون أي تأخير. يجب دعم هؤلاء ودعم العشائر السنّية في سوريا أيضا".
هناك مقاربة شاملة من الملك لمشاكل المنطقة في ضوء الحملات الجوية على "داعش". هناك في مرحلة لاحقة حاجة إلى تحرّكات من نوع جديد على الأرض يعدّ الأردن نفسه لها مع آخرين.
يبقى السؤال الأهمّ ما سر قوة الأردن، ولماذا يستطيع الملك التكلّم بالطريقة التي يتكلّم بها؟ قد يكون ذلك عائدا قبل كلّ شيء إلى قوة الجبهة الداخلية في بلد يستخف كثيرون به وبدوره. هذا ما يشرحه عبدالله الثاني الذي يجيب عن سؤال بقوله: "إن كنت تعرف تاريخنا، فقد مررنا بكثير من الأزمات لسنوات عديدة. إنّها ليست محض صدفة أنّنا ما زلنا صامدين وأقوياء".
لا يمكن تغطية كلّ ما ورد أجوبة العاهل الأردني عن الأسئلة الستة والثمانين التي وُجّهت إليه، ولكن لا بدّ في النهاية من التوقّف عند قوله: "سيبقى الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي والقدس جوهر الصراع في المنطقة، على الرغم من أنّ البعض لا يروق له هذا الربط".
يؤكّد أنّه "إذا لم نتوصّل إلى حلّ للصراع، ستكون انتفاضة (فلسطينية) سادسة أو سابعة وسيكون هناك حرب ثانية في لبنان (بعد حرب صيف ٢٠٠٦)".
هل ما يؤرق عبدالله الثاني على الصعيد الداخلي؟ الجواب أنّ ما يؤرقه هو "الوضع الإقتصادي والفقر والبطالة والضغط الذي يواجه شعبي بسبب أزمة اللاجئين". هذا هو الواقع الأردني الذي لا يمكن تجاوزه في بلد يعترف فيه عبدالله الثاني في ختام الحديث بأنه "ربّما من الأصعب أن تكون رئيسا" من أن تكون ملكا!
&