علي صالح الضريبي&

جاء في أكثر من أثرٍ تاريخي أن أحد الملاحدة أتى الامام أبوحنيفة النعمان وهو في حلقته – جامعة زمان كانت تسمى حلقة – يلقي دروسه على تلاميذه. فبادر هذا الملحد أبا حنيفة بالقول، "لدي ثلاثة أسئلة أريدك أن تجيب عليها دونما استشهاد بالقرآن أو السنة، لأنني كافر بهما! إنما أجبني بما يرتضيه عقلي والمنطق. وإن أنت أجبت على اسئلتي، رجعت عما أنا فيه". فرد عليه الامام أبو حنيفة، "سل ما شئت". عندها طرح الملحد اسئلته الثلاثة فقال، "كيف أعبد الله وأنا لا أراه؟ وكيف أحاسب على أشياء أنا مُسيّرٌ فيها ولست مُخيّر؟ وكيف يُعذب الجن في النار وهو من نار؟".


هنا جاء دور إجابة من وصفه الكثير من العلماء بأنه كان لديه من قوة الحجة والمنطق ما يُقنعك بأن الحجر ذهب! فتناول حينها أبوحنيفة قنينة من الفخار كانت بالقرب منه، وهوى بها على رأس السائل؟!، فشجّ بها رأسه! عندها بُهِت السائل ألماً وذهولاً من ردة فعل أبي حنيفة! وفكّر حينها أن يردّ الاعتداء بالمثل، ولكنه خاف من تلاميذ أبي حنيفة فقد ربما يقتلوه إن هو فعل ذلك، فآثر أن يذهب للقاضي ويشكو الامام عنده. ووصل للقاضي وهو على تلك الحالة فقال "أهذا من تصفون بالامام الأعظم؟! ناظرت أبا حنيفة فكان منه ما ترى؟!". فاشتد ذهول القاضي وطلب أبا حنيفة، وعند حضوره سأله القاضي، "أصحيح أنك من اعتدى عليه"؟! فأجاب أبوحنيفة، "نعم أنا الفاعل"! فرد القاضي، "ولما فعلت ذلك"؟! فقال أبو حنيفة، "لأن بضربي إياه أجبت على اسئلته الثلاثة"! فرد القاضي متعجباً، "وكيف ذلك"؟! قال أبو حنيفة، "سألني كيف يعبد الله وهو لايراه؟ وأنا حين ضربته بالقنينة على رأسه أحس بالألم، فهل رآه؟! وسألني كيف يُحاسب على أمور هو مُسيّرٌ فيها وليس مُخيّر؟ وهو أخذ يفكّر لبرهة أن يعتدي علي بالمثل ولكنه هاب تلاميذي، فآثر أن يشكوني عندك. فالانسان مُسيّرٌ في أمور ومُخيّر في أمور! أما سؤاله الثالث، كيف يُعذّب الجن في النار وهو من نار؟ فلقد ضربته بالطين وهو أصله، وكذلك يُعّذب الجن في النار وأصله من نار!". عندها أقرّ القاضي والملحد معاً فعل أبا حنيفة وفضل علمه، ورجع الملحد عن إلحاده!
تذكرت هذه القصة وأنا أتابع في إحدى القنوات الفضائية المصرية مؤخراً برنامجاً حوارياً كان أحد أطرافه المُجاهر بإلحاده المصري أحمد حرقان، والذي كان يوماً – بحسب تقديمه لنفسه - أحد الملتزمين دينياً عملاً ودراسة (المذكور كان إمام مسجد وخريج جامعي في الدراسات الإسلامية و"سلفي" بامتياز!). واليوم بات "مُلحداً" يفتخر بإلحاده وليته اكتفى لكان شأنه، ولكنه مضى ينتقد عبر هذا البرنامج وغيره الاسلام ويشكك في القرآن الكريم وآياته واصفاً إياها أنها تحمل الكثير من "التناقض"، وتدعو إلى العنف والإرهاب!، وكيف أن الاسلام لا يسمح بحرية الفكر ولا يتقبل أن يكون بينه ملاحدة!، ولو كان على إطلاع بسيط بتاريخ من سبقوه في الإلحاد والهرطقة بدءً من المعتزلة، لأنصف رُقي الاسلام والمسلمين في التعامل مع هذه الفرق، وكيف أن الكثير من المناظرات كانت تُعقد بين الملاحدة والمهرطقين وبين علماء المسلمين في قصور الخلفاء والوزراء وفي حضرتهم دون المساس بهم في وقتٍ كان حد السيف جزاء الخارج عن الدين!
لست هنا في معرض الرد الشرعي على ادعاءات أحمد حول الاسلام كوني لست متخصصاً شرعياً – بعكسه! – وحتى لو كنت فأحمد كصاحب أبي حنيفة حينها لن يقبل الاستدلال الشرعي، وليت أن لي بعض حجة ومنطق الامام أبي حنيفة (باستثناء استخدام القنينة عملياً فقط!). ولست أيضاً بمقالي هذا قصدت "إلي ما يشتريش يتفرج" على أحمد – وأتمنى أن يعي ذلك أيضاً كريم ذوق القارئ والمتفاعل -، ولكن أحمد أبرز نفسه وتوجهه للعامة – وأنا منهم – فجاز لي التحدث والنقد المقبول في أمره.
استطيع تقبل سخط أحمد – بل واسخط معه والكثير من المسلمين - حول تصدُّر البعض "مشيخة الاسلام"، وهو ليس كفؤ لها قولاً وعلماً وعملاً، أو حول ركود المسلمين الحضاري، ولكن يا أحمد كما قيل العيب ليس في الاسلام، العيب في عارض بضاعته!. وقد انتقي الخبر الموثّق تاريخياً حول قيام نابليون بونابرت في القرن التاسع عشر بطلب ترجمة كتاب الموطأ للامام مالك، واعتماده كمصدر رئيس في كتابة نصوص أول قانون فرنسي مدني!، وذلك للتدليل على جودة البضاعة!
بعيداً عن الدخول في النوايا والأسباب والأهداف التي دفعت بأحمد ومن سبقه وتبعه – بحسب ما أشار في إحدى لقاءاته أنهم بالآلاف في مصر وخارجها، ويسعون لتشكيل تنظيمٍ لهم! – إلى طريق الالحاد. أخاطب هذا الجمع الملحد الطيب – ظناً! - بأن مشكلتي ليست في توجهكم منذ أن قرأت ووعيت، "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، إنما مشكلتي هي في طريقة طرحكم لتوجهكم وما فيه من تطرف وتعصب فكري (وهو ما أرفضه أيضاً في منتقديكم)، وسخرية واستهزاء وتطاول على الاسلام والمسلمين، لم يطلهم حتى من أعتى ملاحدة الغرب، و"كان غيركم أشطر"!
أنا أتسائل هنا، ألم يسعك يا أحمد ومن معك ما وسع أمثال الفيلسوف البريطاني الملحد، السير/ أشعياء برلين، حينما قال، "أنا لست مؤمناً ولكني أعطي قيمة عالية لتجربة المؤمنين الدينية، اعتقد أن من لا يفهمون ما يعنيه التدين لا يفهمون مايحيا به البشر! ولهذا فإن الملحدين الجامدين في نظري عُمي وصُم عن بعض أشكال الخبرة الإنسانية العميقة"!
ألم تتأمل يا أحمد قول الفيلسوف المعروف، رينيه ديكارت، أحد رواد مدرسة "الشك"، حينما قال، "الحياة مشهد واحد من مسرحية طويلة ولا بد من المشهد الثاني لأن القصة لم تكتمل بعد". وهو اعتراف غير مباشر من ديكارت بيوم الفصل وحسابه العادل.
تعمدت يا أحمد أن آتي ببعض أقوال – ليست من القرآن أو السُنة! – فطاحلة المنطق والفلسفة والالحاد، لعلك بقدر شجاعتك في إشهار إلحادك تمتلك الشجاعة نفسها في مراجعة طريقة طرحك لما اعتنقت وربما – إن شاء الله – الرجوع عما اعتنقت!، وأسأل الله أن يُحسن لك ولمن مثلك عاقبة أمركم في الدنيا والآخرة.
ختاماً، كونك يا أحمد من "مصر التي في خاطري وفي فمي.."، فإني أضعك – ومن مثلك – في تحدي أخير وفصل إن كسبته، اعتذرت لك أولاً عما ساعتبره حينها "سخافة وصفاقة" مقالي هذا، وأقررت بطرحك بل وسأصبح من اعتى المدافعين عنه وعنك.
ابن بلدك البروفيسير/ علي مصطفى مشرفة – رحمه الله - الذي وصفه "أينشتاين" – بشحمه ولحمه! – أنه أحد أكبر وأنبغ علماء العصر في الفيزياء والكيمياء، بل إن إعجاب أينشتاين بلغ حد أن عرض على مشرفة أن يقدِم عليه ليقوم بتدريس طلابه!، وهو العرض الذي اعتذر مشرفة عنه معللاً، "في بلدي جيل يحتاج إلي".

يقول علي مشرفة الذي مات وفي جيبه نسخة من القرآن الكريم، "إعمل واخوانك للاسلام.. لله".

فقط يا أحمد أثبت لي أنك – أو من يتشدد لك! – أذكى من ابن بلدك علي مشرفة.. حتى أصدّقك وأكن لك من التابعين .. هكذا بالمنطق!
&