&
قاسم حول
&
مقدمة :
&
دعيت إلى مؤتمر عن السينما في الخليج. جاءتني فتاة محجبة تماما. هي رشيقة وطويلة نسبيا وترتدي جلبابا أسود اللون وقد غطت وجهها ورأسها في الحجاب وأمام عينيها شبك يصعب أن أشاهد من خلاله عينيها. هي تراني ولا أراها مثل الزجاج الأخضر الواقي من الرصاص لرجال السلطة القائمة في العراق حيث يشاهدون الناس والناس لا تشاهدهم. السيدة المحجبة لا أدري إن كانت بحجابها تؤدي طقوس الدين أو تخفي جمالا أو تحجب قبحا عن البشر. قالت لي أريد أن أجري حديثا صحفيا معك. أعتذرت منها وقلت لها بصراحة سيدتي يصعب علي إجراء الحديث مع إنسان لا أتمكن من مشاهدة وجهه وقراءة تعبيره والنظر إلى عينيه. قالت لي الأسئلة مكتوبة وتستطيع الإجابة عليها في الفندق وتجلبها لي في اليوم التالي. قلت لها سوف لن أعرفك فأنت بين كثيرات محجبات هنا. قالت لي أنا أعرفك وسآتي إليك غداً لأخذ الإجابات. أعتذرت. فأضافت أنا محررة في الجريدة التي تملكها الشيخة زوجة الأمير وعدم حصولي على إجابات وإجراء تحقيقات يعني ذلك فشلي في مهنتي وقد يستغنى عن خدماتي في الجريدة. قلت لها هذه مشكلتك.
إلتفت نحو زميلتي الناقدة السينمائية السيدة "صفاء الليثي" وطلبت منها إجراء مقابلة صحفية، ردت عليها السيدة صفاء بمثل ما صرحت به أنا وأضافت "إنت إنثى وأنا إنثى. دعينا نذهب إلى الحمام وهناك أكشفي لي عن وجهك ونتحدث بضع دقائق وأنا أجيب على أسئلتك المكتوبة وأجلبها لك غدا، &أريد أن أراك إذ لا يمكنني إجراء مقابلة مع إنسانة لا أعرف شيئا عن ملامحها. فرفضت الصحفية المحجبة هذا العرض وغادرتنا.
لست مسؤولا عنها ولا عن حجابها ولا عن حريتها ولا عن مهمتها الصحفية. فأنا ضيف وهي ليست إبنة وطني. لها أن تلبس ما تشاء ولي أن أرفض ما أشاء. فأنا آت بزيارة مؤقتة وسوف أعود من حيث أتيت. ويا غريب كن أديب.
&
الغرفة المظلمة الأولى :
&
مسكني من يدي وأنا منهك تماما. كنت في مديرية الأمن قرب القصر الأبيض. شاب يميل إلى الشقرة وعيناه لمحتهما بالصدفة يميلان إلى اللون الأخضر. قال لي إعذرني فأنا مضطر لكي أدخلك في تلك الغرفة المظلمة، وأنا معجب بفيلم الحارس وبلقاءاتك التلفزيونية، لكنها وظيفتي وأمروني بجلبك إلى هنا لأدخلك في الغرفة المظلمة وبعدها سوف أحملك إلى مكان آخر. هل تسامحني؟ قال لي، وكنت أراه صادقا في ما قاله ووثقت في إعتذاره. ولم أجب شيئا.
فتح الباب وأغلقه. الغرفة مظلمة تماما وزادها ظلمة عدم تمكني من رؤيتي لما في داخلها أو حجمها إنني دخلتها من المكان المشمس في ساحة مديرية الأمن.
دهمني لحظة دخولي صراخ وضحك وأصوات وتلقيت ضربة موجعة ثم ضربات من أعداد كبيرة لم أر منهم أحداً سوى أصواتهم المختلطة بين الضحك والصراخ وأسمي يتردد مع القهقهات والصراخ، ثم لم أشعر بشيء ولم أعد أسمع شيئا.
وجدت نفسي مرميا في زاوية صغيرة تحت سلم قديم عرفت فيما بعد أنه قصر النهاية.
بعد زمن صحوت في بيروت!
كان ذلك عام 1969
وأنا الآن في هولندا.
&
الغرفة المظلمة الثانية :
سقط نظام الدكتاتور إلى غير رجعة وغير مأسوف عليه.
كل أصدقائي وأهلي طلبوا مني العودة للوطن لإستعادة وثائقي المفقودة لأنني خرجت من العراق بدون وثائق وكنت بعد إنتهاء صلاحية جواز سفري، أتنقل بجواز سفر يمني جنوبي.
لم أقرر العودة للوطن. طلبت من أصدقائي وأهلي التأكد من ملفي حيث كنت أعمل قبل أن أتوجه للعراق..
مدير المؤسسة يقول أن ملفي مفقود.
عامان ونصف العام والسيد المدير يؤكد أن ملفي مفقود ولا توجد أوليات. إضطررت للذهاب للعراق وعندما دخلت المؤسسة وذهبت إلى إدارة المؤسسة وجدت ملفي على منضدة مديرة الإدارة!
بدأت عملية متابعة حقوقي التقاعدية وأتضح أنها معاملة طويلة ومعقدة للغاية، فيها وزارة للهجرة ووزارة للمساءلة والعدالة ووزارة للثقافة ووزارة للجنسية وشهاداتها. ستة شهور من المتابعة المضنية التي كادت أن تدمر حياتي حتى إقتربت من نهاية إستكمال الإجراءات وتوقيع الوثائق. لم تبق سوى بضع &خطوات.
سألت عن ملفي الذي إزداد سمنة في الوزارة. قالوا لي لقد وردت رسالة من المساءلة والعدالة تبرئ ساحتك، وأصبح الملف جاهزاً للقرار في غرفة تقع في الطابق الخامس من الوزارة في نهاية الرواق بعد المصعد. إسأل عنها هناك ستجد السيدة المسؤولة عن ملفك وإحصل على توقيعها.
إجتزت إجراءات الدخول في إستعلامات الوزارة وتسليم هاتفي النقال وهويتي وأنتظرت طويلا التفتيش ووصلت المصعد. فكان صعبا الدخول في المصعد من كثرة المنتظرين، ومر الوقت كثيرا دون أن أفلح في أستخدام المصعد، وبدأت أصعد الطوابق مشياً عبر سلالم متكسرة حتى وصلت الطابق الخامس. وحسب الوصف مشيت في الرواق وأيضا منهكا كما السابق وسألت أحد المستخدمين عن غرفة السيدة فأشار لي نحو باب مغلق ذكرني بباب الغرفة المظلمة الأولى!
الفرق بين الغرفتين، لم يكن ثمة من إقتادني ماسكا يدي نحو الغرفة المظلمة معتذراً مني! فلقد ذهبت إلى الغرفة المظلمة الثانية بنفسي!
طرقت الباب مستأذنا، فلم يأتني الجواب. مرة ثانية وثالثة عسى أسمع كلمة "تفضل" ولا جواب فظننت أن السيدة المسؤولة ليست موجودة داخل الغرفة. فكرت أن أفتح الباب بدون إستئذان. مسكت أكرة الباب وفتحته. دخلت الغرفة. الضوء خافت. الغرفة صغيرة نسبياً. ثمة طاولة طويلة عرضا من الخشب القديم، تجلس خلفها إمرأة&بدينة وعلى ما أظن بدت لي طويلة لأن جسمها كان عاليا فوق مستوى المنضدة. عريضة المنكبين فأكتافها ذاهبة مسافات عن الرقبة. ترتدي ثوباً أسوداً بدا لي خشنا وثقيلا. شدت رأسها كاملا بغطاء أسود. فتحة العينين تغطيها نظارة سوداء قاتمة عريضة وبأطار أسود. وضعت يديها على الطاولة وشاهدت قفازين جلديين أسودين في كفيها. لا أدري أن كانت تنظر نحوي أو لا فأنا لم أر عينيها خلف النظارة السوداء السميكة. وكيف لي أن أسمع كلماتها وهي بدون فم مرئي وبأي يد سوف توقع لي الورقة وكيف تقدمها لي. لم تقل لي شيئا ولم تسألني وكانت على ما يبدو تنتظر مني السؤال. كانت بدينة كثيرا وطويلة كثيراً. كتلة سوداء مخيفة مثل تمثال كبير لنحات فاشل وقد جلست خلف الطاولة. كان صوت الصمت مخيفا أكثر من صوت الصراخ والضحك في الغرفة المظلمة الأولى.
تراجعت خطوات إلى الوراء مسكت أكرة الباب وغلقت الباب بهدوء.
وعدت إلى هولندا.
&
&