نعود دائما الى هذا الجدل، اجتثاث البعث. القصة التي تُطرح باستمرار على أنها عقبة العملية السياسية، وسبب غياب المصالحة عنها. التسامح مقولة رئيسية يعتمدها الرافضون للاجتثاث، والمدافعون عنه وجدوا في القصة الألمانية مع النازية مرجعية.
وبين الرأيين تبدو الفكرة المتسامحة طوباوية مع حزب لم يمتلك أي دلالة على الشعور بالخطيئة. الثقة بهذا الحزب مفقودة تماما. تاريخه يقول إنه غير مأمون الجانب، وان حلفاءه ضحاياه قبل خصومه. تغذى على الدسائس، ولاحق منافسيه بالمؤامرات بعد أن يدينهم بالوقوع فيها، ويتلون بحسب الظروف، ويلْبد في معطف لا يليق به، ثم يخرج منه بعد ان يفرهد ما في جيوبه، يقوّض خصومه باستدراجهم اللَّين ثم الانقضاض عليهم حين يتحولون الى فرائس بلا حياة. مثل هذا الحزب لا يمكن الوثوق به.
والبعث ليس الند العلماني، كما يتوهم من يتوهم. البعث استحضار لنموذج اسلامي عربي تاريخي، انطبع بمقولات ما قبل الحرب العالمية الثانية في أوربا، وأخذ شكلا طائفيا خفياً كشفته اتجاهات السلطة وشكل الصراع الداخلي. البعث استخدم الاسلام مرارا ضد الشيوعية، وختم حكمه بالدين في "الحملة الايمانية" التي اطلقها النظام السابق.
الا أن مشكلة اقتلاعه من العراق، حصول العملية بيد امتداداته، الوجه الاخر له. استئصال التشويه البعثي جرى بيد مشوهة، الجهة المنفذة له لم تكن تجتثه لأنه العقيدة السياسية والاجتماعية القبيحة، بل كجزء من صراع عقائدي. النازية لم تُجتث بيد فريق شوفيني، او ديني، انما بيد قوى اجتماعية وسياسية عملتْ بجد على عبور كل اشكال العنصريات. الاجتثاث بيد عنصري لعنصري، تكريس للعنصرية، وخدمة للمُجتَث، لهذا نجح البعث بان يقدم نفسه مظلوما، وهو لم يكن كذلك أبدا، حتى في اللحظة التي يدعي فيها الظليمة.
إن الخلط بين الفعل القضائي المتعلق بجناية المتورطين بالدماء من البعثيين والفعل السياسي والاخلاقي المؤدي لحظر حزب البعث، فوضى وارباك وقعت فيه عملية الاجتثاث، حيث تحولت من ادانة للمجرمين وحظر للعقيدة الدموية، الى سلوك سياسي، انتقائي وشعاراتي... لقد انتقل الاجتثاث الى استهداف أرزاق أسر البعثيين، على الاقل اعلاميا، وهذا لم يكن ليحصل لو ان العملية جرت بيد كان يعنيها ان تخلّص البلاد فعلا من أي تشويه كتشويه البعث، لأن مثل هذه اليد ستمنع ان يعود البعث بأي صورة كان، وفي الوقت ذاته وضعه في زاوية لا يمكنه ان يخرج منها، وهي زاوية الجلاد غير الموثوق بتوبته.
السياسات الخاطئة التي خلطت بين الثأر وتخليص العراق من حزب شوفيني، أدت الى تحوّل قضية البعث الى قضية مركزية لدى السنة، وهو ما لم تعمل احزاب الشيعة على معالجته، رغم ان التصفيات الجسدية، وليس الاجتثاث الوظيفي فقط، استهدف بدرجة اكبر، البعثيين الشيعة. السبب هو أن هذه الاحزاب لم تكن معنية بتحقيق العدالة، انما الكسب السياسي. لقد اصبح الصراع على الموضوع بين السنة والشيعة، جزءاً من الصراع الطائفي المحموم، تخويف متبادل، لابقاء جذوة النزاع قائمة، فهذا الطرف يستثمر خشية الشيعة من البعث، وذاك يستغل الربط المذهبي بينه وبين السنة.
الان، يدور في الاروقة السياسية حوار حول مستقبل عملية الاجتثاث، او "المساءلة والعدالة"، الاتفاق السياسي بين حيدر العبادي وشركائه يقضي بإعادة الملف الى معطياته القانونية، مع التأكيد على حظر الحزب. الامر ضروري جدا، مع التأكيد على أن ما فعله خليفة الدكتاتور على زعامة البعث عزت الدوري من مديح ودعم لمقاتلي داعش، يمثل نقطة محورية، في أن هذا الحزب لا يمكن الثقة به، والمشكلة دائما في خصومه، وليس في أنه يستحق العودة ام لا، لأن فِعاله لا تقبل سوى "لا".
&