من مفكرة سفر عربي في اليابان

&انتهت والحمد لله الانتخابات البحرينية بسلام، ولم يكن من المستغرب أن يتغير لون الطابع الديني الثيوقراطي للبرلمان البحريني إلى طابع جديد، فاز فيه 36 من المستقلين، ولم يحظى السلف إلا بمقعدين، وأما الاخوان فكان نصيبهم كرسي وحيد. بينما لم تتوفق الجمعيات السياسية "الثيوقراطية" المعارضة فرض فتواها، بمقاطعة الانتخابات، على الشعب البحريني، بعدما جمدت المعارضة حصانتها القانونية، ودورها البرلماني، ومسئولياتها في التنمية المستدامة لأربعة سنوات أخرى. ويبدو بأن شعوب منطقة الشرق الأوسط قد سأمت من الفتاوى المقنعة بقناع الدين، في ما يتعلق بحراكهم السياسي، ومصالحهم الحياتية الاقتصادية والاجتماعية.& ولنتذكر عزيزي القارئ بأن المعارضة البحرينية مكونة من مجموعات متنوعة من الحراك السياسي، منها الشيوعي، والماركسي، والبعثي، والقومي، بالاضافة للحراك الثيولوجي الطائفي، والذي يجمع بين طرفين نقيضين، مجموعات القاعدة وداعش واخواتها، وطرف حراك اخر مرتبط بالفكر الثيولوجي الايراني، بشكليه المعتدل، وبأطيافه العديدة المتطرفة الصغيرة والمتفتتة. ويبقى السؤال ما الديمقراطية التي يدعو لها هذا الحراك الثيولوجي؟ هل هي ثيوقراطية على النمط الايراني، ام ديمقراطية على النمط الغربي؟ وقد نتساءل: ما الذي حققته الثيوقراطية الايرانية خلال 35 سنة الماضية لشعبها، ولمنطقة الشرق ألأوسط لتكون نموذج نظام يحتذي به شعب مملكة البحرين؟ وهل جذبت هذه التجربة الثيوقراطية الشعب الايراني لممارساتها أم أنه رفضها، واصيب بردة فعل عكسية من ممارسات قياداتها؟& وهل حققت هذه الثيوقراطية التنمية المستدامة للشعب الايراني، بالرغم من غناء موارده الطبيعية والبشرية؟ وهل نشرت السلوك الاخلاقي الروحي في المجتمع الإيراني؟
&يبدو لي بأننا لا نحتاج أن نكرر المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية التي تضع النظام الثيولوجي الإيراني في مؤخرة دول العالم، والتي تعكس مدى فشل هذه التجربة الثيوقراطية في تحقيق امال الشعب، بالرغم من غناء موارده الطبيعية والبشرية. وقد يناقش البعض بأن الانظمة الثيوقراطية جاهلة بالعلوم الاقتصادية، فليس من المتوقع من نجاحها في التنمية المستدامة، فنراجع عزيزي القارئ ما حققه النظام الثيولوجية من أخلاقيات السلوك في المجتمع الايراني بعد 35 سنة من الحكم. فلقد نشرت صحيفة الحياة في 9 من شهر ديسمبر الجاري تصريح للرئيس الإيراني حسن روحاني هاجم فيه الاحتكارات في بلاده، محذراً من أن الفساد يعرّض الثورة لخطر، فيما حضّ مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي السلطات الثلاث على التصدي الحازم للفساد الاقتصادي والإداري. وقال في رسالة تلاها إسحق جهانكيري، النائب الأول للرئيس، خلال مؤتمر لمكافحة الفساد: "ما أتوقّعه من السادة المحترمين هو اتخاذ قرارات حاسمة وعملية من دون أي اعتبارات خاصة، وتنفيذها." وقد أعدمت إيران في شهر مايو الماضي البليونير، ماها فريد أمير خوسروي، بعد إدانته بالتورط بفضيحة مصرفية تطاول نحو 3 بلايين دولار، كانت الأضخم منذ الثورة عام 1979.
وفي سبتمبر الماضي، ادين محمد رضا رحيمي، النائب الأول للرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، في قضايا فساد. كما أعلن وزير الاقتصاد، علي طيب نيا الأحد، عن كشف فضيحة فساد ضخمة تشمل نحو 4 بلايين دولار في القطاع المصرفي، مشيراً إلى أنها حدثت بين عامَي 2006 و2012، أي خلال عهد نجاد، واستدرك بأن المصارف استعادت كل المبالغ المختلسة. وحمل روحاني على الفساد المتزايد في إيران، مضيفاً أن المال كان يُقدَّم من تحت الطاولة، وبات الآن يُقدم من فوقها، كما رأى بأن مكافحة الفساد واجتثاث جذوره، يندرجان ضمن أهداف سامية مثل الاستقلال ومكافحة الاستعمار والاستبداد. كما صرح الرئيس روحاني في كلمته أمام مؤتمر مكافحة الفساد بأنه: "لا يمكن بلوغ الهدف، من دون مكافحة شاملة للفساد يشارك فيها المجتمع المدني والشعب... وإذا أردنا تسوية المشكلات ووضع البلاد على مسار صحيح، يجب أن نكافح الفساد وألا نرحم أحداً من المفسدين." كما نبّه روحاني إلى أن استمرار الفساد واتساعه يعرّضان الثورة والنظام لخطر، معتبراً أن القوانين غير الشفافة والبيروقراطية توجد الفساد الذي ينتشر في الظلام. وتابع بأنه: "إذا بدونا ضعفاء في مكافحتنا الفساد، سيعني ذلك ضعف الثورة وعدم فاعليتها في تحقيق أحد أهدافها الرئيسة." وانتقد الاحتكارات، معتبراً أنها سبب تلك الآفة، كما أن غياب المنافسة داخل مجتمعٍ، ووجود حصرية، أمر سيئ.
تصور عزيزي القارئ بأن الذين حكموا إيران باسم الدين والفضيلة خلال 35 سنة، وبعد أن دمروا الاقتصاد الايراني عن بكرة ابيه، ويتشدقون بالثورة والديمقراطية من كل صوب وحذب، وهم الذين اسكتوا رفاقهم في الحكم، كآية الله منتظري، بعد أن أبقوه في سجن الاقامة الجبرية حتى موته، لانه رفض ثيوقراطيتهم الحاكمة، وهم الذين يصرخون اليوم من الفساد. وطبعا مأساتنا الاكبر، بأن جماعاتهم في مملكة البحرين يريدون الانقلاب على المملكة الدستورية، وتطبيق جمهورية ثيولوجية على النمط الايراني. وقد عرضت مجلة دي ايكونوميست في شهر نوفمبر الماضي تقرير خاص عن التغيرات الجديدة في المجتمع الايراني، وردة الفعل العكسية التي انتشرت بين الشباب ضد النظام الثيولوجي الايراني، مما أبعدهم حتى عن المساجد، حيث أن الكثير من المساجد "الحكومية" خاوية من المصليين، كما أن ما يقارب 80% من الشابات& الايرانيات اعترفوا بأن لهم علاقة مع الشباب من الجنس الاخر. وقد برز هذا السلوك في تقرير بصحيفة ايلاف الالكترونية في العاشر من شهر ديسمبر الجاري، يتحدث عن ارتفاع أعداد الشابات والشباب الإيرانيين الذين يختارون العيش معا قبل الزواج، متحدين القوانين الصارمة، والقيود الشديدة التي يفرضها النظام الثيوقراطي في مجال العلاقات الاجتماعية. وانتشرت هذه الظاهرة حتى أن مكتب المرشد الأعلى للجمهورية الاسلامية اصدر بياناً يستنكر فيه هذه الممارسة بقوة.& كما نقلت البي بي سي عن الشابة سارة من طهران قولها: "أنا قررتُ ان أعيش مع صديقي لأني أردتُ أن أعرفه بشكل أفضل".& واضافت بأنه: "من الصعب على الفتاة ان تعرف الشاب بمجرد ارتياد المطاعم والمقاهي معه."&& وكان قرار سارة الإقدام على ما أصبح معروفا في إيران باسم "الزواج الأبيض"، امرا لا يمكن حتى التفكير فيه، أو تخيله، قبل سنوات قليلة، في مجتمع يحكمه رجال دين، وفي بلد يمنع مصافحة الرجل مع الجنس الآخر، كما أن العلاقات المفتوحة بين الجنسين يمكن ان تستنزل عقاباً قاسياً على من يمارسونها، ولكن بدأ أعدادًا متزايدة من الإيرانيات والإيرانيين غير المتزوجين يختارون العيش معا رغم ذلك.
وفي حين أن إحصاءات رسمية لا تتوفر، فان ظاهرة "الزواج الأبيض" أصبحت شائعة حتى أن مجلة "زنان" الإيرانية المختصة بشؤون المرأة أصدرت عدداً خاصاً عن الموضوع مؤخرًا. وانضم المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي نفسه إلى النقاش الدائر حول هذه الظاهرة. ففي نهاية شهر نوفمبر الماضي أصدر مدير مكتبه، محمد محمدي كلباكياني، بياناً شديد اللهجة مطالباً المسئولين بحملة ضد هذا الشكل من المعاشرة، وألا يبدون فيها أي رحمة.& كما جاء في البيان بان من المعيب على الرجل والمرأة ان يعيشا معاً دون أن يكونا متزوجين، ولن يمضي وقت طويل قبل ان يكون الذين اختاروا نمط الحياة هذا قد محوا جيلا شرعياً بجيل غير شرعي. ويبدو بأن الشباب الإيراني لا يحترم تحذيرات المرشد الأعلى. كما نقلت البي بي سي عن شخص يدعى "علي"، من طهران، والذي يعيش مع صديقته منذ عامين، تصريح قال فيه: "ان الزواج باهظ الكلفة، والطلاق أبهظ، فلماذا ألزم نفسي بشيء لستُ متأكد منه؟"& وتبين هذه المواقف المسافة التي ابتعد فيها بعض الإيرانيين الشباب في المدن عن القيم التقليدية لجيل آبائهم. وقال عالم الاجتماع الايراني، مهرداد درويش بور، المقيم في السويد: "ان الشرائح المتدينة من المجتمع الايراني لا تقبل المعاشرة بطبيعة الحال... ولكن الطبقة الوسطى في إيران بدأت تفضل هذا النمط من الحياة على الزواج التقليدي، فان الجنس قبل الزواج لم يعد من المحرمات".
ويشير العديد من المراقبين إلى أن ارتفاع معدلات الطلاق في إيران هو من الأسباب الرئيسية لعزوف بعض الشباب والشابات الإيرانيين عن التسرع في دخول الحياة الزوجية، مع اتفاق عائلاتهم معهم في أحيان كثيرة. كما صرح فرهاد اقطار، مدير مكتب الوقاية والعلاج من المخدرات في إيران، ان 20% من الزيجات تنتهي بالطلاق، وان معدلات الطلاق في العاصمة طهران هي الأعلى في البلاد.& ولكن خيار العيش معاً قبل الزواج ليس خيارا سهلا على الدوام، ورغم قبول بعض الآباء من سكان المدن بقرارات ابنائهم وبناتهم، فان المعاشرة ما زالت تُعد بنظر الكثيرين خطوة مرفوضة في مجتمع يبقى تقليديا بعمق. وبحسب رأي المحامية والناشطة الحقوقية، مهرنغير كار، فإن من المشاكل الأخرى عدم توفر المساعدة القانونية للشريكين، إذا حدثت مشكلة، لأن المعاشرة قبل الزواج ممنوعة قانونيا، وإذا تعرضت امرأة إلى الاضطهاد في اطار الزواج الأبيض، فإنها لن تتمكن من التوجه إلى الشرطة، لأنها وشريكها، سيُعتقلان بتهمة الزنا. كما أعلن في الصيف الماضي مدير الشؤون الاجتماعية والثقافية في مكتب حاكم طهران، سياوش شهريار، عن وضع خطة لمعالجة ظاهرة الزواج الأبيض، ولكن عالم الاجتماع، مهرداد درويش بور، ابدى شكه في جدوى أي محاولات لاستخدام القانون في التعاطي مع هذه القضايا قائلا: "ان ما يحدث تحت جلد المجتمع لا يمكن السيطرة عليه، إن لم تعالج أسبابه." تلاحظ عزيزي القارئ ما حققته الثيولوجية الايرانية خلال 35 سنة من الحكم.
ومن الجدير بالذكر بأن التطرف الثيولوجي قد نوقش في مؤتمر حوار المنامه في شهر ديسمبر الجاري. فقد تحدث ولي العهد، نائب القائد الأعلى، النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، صاحب السمو الملكي الأمير، سلمان بن حمد آل خليفة، في افتتاحية هذا المنتدى، ودعى سموه للتخلص من مصطلح الإرهاب، لأنه مضلل بعض الشيء.. ذلك أنّ الإرهاب مجرد أداة يتم استخدامها..& وأننا لا نحارب إرهابيين فقط وإنما نحارب ثيوقراطيين. كما& دعى سموه لحذف مصطلح الحرب على الإرهاب، والتركيز على التهديد الحقيقي الذي هو انتشار هذه الثيوقراطيات الشريرة، وبأن نحمّل المسئولية كل أولئك الذين يضعون أنفسهم فوق البشر، ويدّعون أن لديهم تكليفاً إلهياً في التحكم بالبشر. ولنتذكر بأن هذه الجماعات المتطرفة تحمل فكراً ثيوقراطياً يرى نفسه فوق الجميع، لأنه يعتبر نفسه حاكماً بأمر الله، وظلاً له على الأرض. وقد اعتبر سمو الأمير سلمان بن حمد آل خليفة أنّه يجب علينا في البداية أن نجمع السياسات العسكرية والاجتماعية والسياسية ولربما الاقتصادية على نحو شامل لمكافحة هذا الخطر.
كما أضاف سموه: "يجب علينا أن نستخدم كل الموارد، ولعل من أهم هذه الموارد التعليم والإعلام والثقافة، إذْ إنّ محاربة الفكر المتطرف يكون من خلال التعليم، وتعديل المناهج الدراسية، وتطويرها، بحيث تساهم في نشر قيم التسامح، والعيش المشترك، والمواطنة العالمية، وزيادة الوعي بين الأجيال المتعاقبة بمخاطر التطرف والثيوقراطية، ذلك أن الفكر المتطرف أخطر بكثير من تمويل الإرهاب، بل إن السكوت عن أسباب نشأة هذا الفكر الثيوقراطي المتطرف أكبر داعم لهذا النهج الغريب عن ديننا، وعليه يصبح من الضروري حشد كل الموارد للتصدي لهذا الفكر بدءاًَ بالعائلة، إذْ على الآباء مراقبة أبنائهم وتواصلهم الإلكتروني، وعلاقاتهم داخل بلادهم وخارجها، حتى لا نتفاجأ، كما حصل في بلدان كثيرة بوجود أولادنا على مرمى النار حيث لا عودة. كما أن الإعلام والمؤسسات الثقافية والدينية بإمكانها وفق خطة استراتيجية ثنائية الأبعاد أن تسهم، ولو على المدى البعيد، في استئصال هذا الفكر؛ حيث يركز البعد الأول على التنفير من هذه الأفكار بإبراز مساوئها وأضرارها، ويركز البعد الثاني من الاستراتيجية على الترغيب في قيم التسامح والتعايش والمواطنة. هذا من دون أن ننسى دور الأنظمة السياسية العربية في مزيد من إحلال العدالة الاجتماعية، والحرية السياسية، بين أفراد المجتمع، حتى لا يكون نقيضها سبباً متجدداً في نشوء هذا الفكر المتطرف." ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان