&
مر العالم العربي منذ نهاية القرن الثالث عشر الميلادي وحتى منتصف القرن العشرين بمرحلتين من الإستعمار. المرحلة الأولى خلال الحكم العثماني الذي إستمر حوالي ستة قرون، لم يتحقق للعرب خلالها سوى الخراب والدمار نتيجة الإستبداد السياسي والإقتصادي، فعلى المستوى السياسي تجلى ذلك الإستبداد في الإضطهاد العرقي القومي عبر تعيين الولاة وقادة الجيوش والشرطة من الأتراك إضافة الى المناصب العليا في الوظائف المدنية الأخرى. وعلى الصعيد الإقتصادي تم فرض ضرائب باهظة وأتاوات تدفعها الجموع الغفيرة من أبناء الشعوب العربية إلى الحكومة المركزية في الآستانه، أما ما يخص التعليم والصحة وغيرها من الخدمات الضرورية فإن الدولة العلية إعتبرتها خارج مسؤليتها.


أما المرحلة الثانية من الإستعمار فقد بدأت في عام 1916م خلال الحرب العالمية الأولى التي هزمت فيها ألمانيا وحلفاءها ومن ضمنهم الدولة العثمانية على أيدي بريطانيا وفرنسا وروسيا، حيث اتفقت كل من بريطانيا وفرنسا على إقتسام الهلال الخصيب عبر إتفاقية سايكس بيكو المشئومة. كانت الدوافع الرئيسية لإستعمار العالم العربي تتمثل في أولا: الموقع الجغرافي المتميز للدول العربية الذي يمتد بين قارتين وهما آسيا وأفريقيا، حيث يمكن التحكم في الممرات المائية التي تربط الشرق والغرب. أما الدافع الثاني فهو المواد الخام والأسواق اللتان تحتاجهما الدول الأوروبية لدعم وتقوية ثورتها الصناعية. لم تعمل الدول الأوروبية خلال حقبة إستعمارها على تطوير وتنمية الدول العربية، وكل المشاريع التي أقاموها من وسائل نقل وطرق مواصلات وكهرباء ومصانع كانت لحماية مصالحهم. ومن مساوئهم أنهم ألزموا المستعمرات بإنتاج المواد الخام وشراء معظم السلع المصنعة من دولهم، وبهذه الطريقة فقدت الدول التي كانت تحت هيمنتهم القدرة على التحكم في مقدراتها الإقتصادية.
التحرر من الإستعمار الغربي في الدول العربية في أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي لم ينجز عن طريق ثورات شعبية (بإستثناء الجزائر وإلى حد ما تونس)، بل عن طريق إنقلابات عسكرية نفذها كبار الضباط في الجيوش الوطنية ضد أنظمة الحكم التي نصبتها الدول المستعمرة، وبعد ذلك بفترة وجيزة بدأ الصراع بين الإخوة الأعداء على الحكم وإقتسام الغنائم. في بعض الدول العربية أخذ الصراع منحى العنف أي الإنقلابات العسكرية المضادة التي أزهقت فيها أرواح الكثير من الأبرياء، وفي البعض الآخر تم بطريقة ناعمة أي العزل وفرض الإقامة الجبرية الطويلة. إستقرت الأوضاع إلى حد كبير منذ بداية السبعينيات من القرن المنصرم على أساس حكم الفرد الواحد تحت مظلة الحزب الواحد المدعوم من الجيش والأجهزة الأمنية.
إن احتكار السلطة لسنوات طويلة في الوطن العربي اوجد طبقات طفيلية في المجتمعات العربية مستفيدة من ذلك الوضع ومتمسكة باستمراره وتستميت في الدفاع عنه، لذلك فان تلك الطبقات الطفيلية تقاوم كل محاولة للتغيير والإصلاح وان كانت بطرق حضارية وسلمية، وتقلب الحقائق وتبث الشائعات وتثير الرعب بين الجماهير. كما أن انظمة الحكم تلك عملت طوال حكمها – ولا تزال – على إضعاف البنى السياسية والمدنية للمجتمعات العربية، فالأحزاب السياسية مشلولة الحركة نتيجة التضييق عليها ومنظمات المجتمع المدني شبه مغيبة، مما ادى إلى غياب رأي عام شعبي قوي يفرض نفسه على السلطة.


كما ان إنجازات تلك الأنظمة على الصعيدين الإقتصادي والإجتماعي منذ الإستقلال إلى الوقت الحاضر لم تكن مشرفة. فتقارير التنمية الإنسانية العربية التي تصدر سنويا تؤكد بالحقائق والأرقام أن اغلب الشعوب العربية البالغ تعدداها حوالي 365 مليون شخص تعيش بلا أمن صحي أو اقتصادي أو اجتماعي أو إنساني. وتشير الى أن عدد الفقراء الذين يعيشون على أقل من 3 دولارات في اليوم يصل الى أكثر من 65 مليون شخص من أصل حوالي 165 مليون شخص فقير، أي زهاء 40%. أما معدلات البطالة فهي الأعلى في العالم حيث أن معدل البطالة في اوساط الشباب يقارب 25% من القوى العاملة من الذكور، بينما يصل المعدل بالنسبة إلى الشابات إلى حوالي 31% من القوى العاملة من الإناث. أما بالنسبة الى الأمية فإنها لا تزال مرتفعة في العالم العربي حيث يتجاوز عدد الأميين ألـ 100 مليون شخص، وتشير الإحصائيات الى أن أكثر من 75 مليونا من إجمالي الأميين العرب تترواح أعمارهم ما بين 15 و 45 عاما. الشعوب العربية منذ بداية الخمسينيات وحتى عام 2011م كانت تعيش فترة الإستعباد، أي مستعبدة من قبل أنظمة حكمها.


من سنن الكون التي سنها الله – جلت قدرته وعلا شأنه – أن لا يبقى شيئا على حاله، والعالم العربي ليس بإستثناء من هذه السنن الربانية. ففي بداية عام 2011م إنطلقت الشرارة الأولى لإنتفاضات الربيع العربي من تونس، ومن ثم إمتدت إلى أكثر من بلد عربي. كانت هذه الإنتفاضات في جوهرها سلمية مدفوعة بمطالب الحرية والكرامة والديمقراطية والعيش الكريم التي غمرت عقول وقلوب الشباب العربي المقموع والمقهور، ولم يكن لها دوافع آيديولوجية. غير أن هذه الإنتفاضات السلمية قوبلت منذ أيامها الأولى بقدر كبير من الخوف والتوجس الممزوج بالعداء من طرف بعض أنظمة الحكم العربية المأزومة والرافضة لكل تطور وإصلاح. في البداية روجت هذه الأنظمة بأن هذه الإنتفاضات ما هي إلا مؤامرة غربية، ثم بدأت تبث الإشاعات المغرضة عن تردي اوضاع دول الربيع العربي واحتمال سقوطها في مهاوي الفوضى والدمار. وهكذا تحولت بعد فترة قصيرة (للأسف الشديد) كل من ليبيا وسوريا واليمن والعراق الى مواقع خلفية لإدراة حروب بالوكالة، وتحريك كل عوامل التفجر فيها حتى لا تنجح هذه الإنتفاضات في تحقيق أهدافها وتحريك المياه العربية الراكدة.
يقول المفكر العربي "هاشم صالح" في كتابه القيم "الإنتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ": ما يحصل عندنا الآن على هيئة حروب أهلية ومذهبية ضمنية أو صريحة من أقصى اليمن إلى أقصى العراق مرورا بكل الأقطار العربية تقريبا، هي عبارة عن مرحلة انتقالية إجبارية لا مفر منها لكي تتحقق الولادة الجديدة لاحقا. العرب قادمون من دون شك، واذا لم يكن اليوم أو غدا فحتما بعد غد. هذا هو منطق التاريخ المتجدد.
&