في طفولتي لم أر من مدن العراق سوى القرية التي ولدت فيها أو بالأحرى أجزاء منها ومدينتي كربلاء والنجف مع والدتي رحمها الله كي أتلو أمامها مأذونية الدخول للمراقد المقدسة. وعندما إنتقلت إلى البصرة بضرورة البحث عن الخبز، شاهدت البصرة في أول أبجديات الوعي الذي تكون مشوبا بالخوف، الخوف الإجتماعي والإقتصادي والسياسي بشكل خاص، وبعد أن أنتقلت إلى بغداد لإستكمال دراستي في معهد الفنون الجميلة شاهدت بغداد أو بالأحرى أجزاء منها. وعندما أنجزت فيلم الحارس مؤسسا لشركة أفلام اليوم وممثلا وكاتبا للفيلم وبعد أن تم أنجازه بات علي السفر إلى مدن العراق لحضور عرض الفيلم والإطمئنان على وارداته من شباك التذاكر. ذلك ما جعلني أرى كل العراق، مكتشفا بعد حين أني لم أره.
أكتشفت بعد ذلك الحين، أن كل المدن التي زرتها بشوارعها بأزقتها بحاناتها بالشاطئ والفراتين بمراقدها المقدسة، أنني لم أشاهد شيئا، لأن الصورة التي أراها سرعان ما تنطفئ ولا تخزنها الذاكرة، لأنها مشوبة بالخوف. والخوف هم منفذ الإعدام لكينونة الحرية لدى الإنسان. العين تعرفك على الطريق ولا تجعلك تصطدم بالآخر الماشي وتقيك العثرات في الدروب المحفورة لكنها لا تسجل عمق الإنطباع ولا حنان التفاصيل ولا تمكنك من أن تشم رائحة الصخر والأسفلت والحشائش والسجاد، العين لا تريك الندمان ولا نادل الحان.
عندما كنت في سن السادسة لم أكن أعرف الخوف ولم أسجل معانيه وفلسفته بعد. لذلك فإن صفحة الذاكرة لم تنمح فيها شوارع ناحية المدينة وصورة المشاحيف في نهر الفرات ولا مركب السينما الجوالة حيث ولدت، وعندما توفى جدي في مدينة الناصرية وذهبت مع والدتي لعزاء الأهل لم أنس محطة القطار وعربة الربل التي نقلتنا من محطة أور إلى مركز المدينة قبل بزوغ الفجر. لا تزال نقرات حوافر الخيل ترن في مسمعي وأتذكر صورة الحوذي ولون الحصانين البني والأبيض الميال للون الرماد، لا زالت حتى الآن أشعر بقشعريرة برد الصبح ولسعاته وأتذكر وجه أمي ودموعها وأنا لم أعرف بعد معنى الموت وفلسفته.
عندما صرت في مرحلة الصبا وعرفت معنى السلطة مؤسسات الخوف. عندما عرفت معنى الحسد والحقد ومعنى الرصد والتنكيل والغيرة وعرفت سلطة الدولة وسلطة الدين وسلطة الحزب بدأ الخوف يتسرب إلى وجداني وصرت لا أرى الأشياء في حقيقتها بل أراها في شكلها الخارجي تشبه ديكورات المسارح والسينما. والناس يمرون في الشوارع بميكانيكية الحراك وآليته. أشكال بدون ملامح ولا لون العيون ولا لفة اليشماغ التي تزين رأس والدي وهو يمسح بطرف اليشماغ دموع عينيه لنحر الحسين مبتهلا الله يوم الطف.
لم أتعرف على وطني. هذا شيء مؤكد سوى الأشياء الصغيرة التي كانت حولي في البيت وفي بضع بساتين النخيل قرب البيت وصوت اليمام في تلك البساتين، ولم أعرف المساحات التي هي أبعد من هذا المكان، وعرفت أن سبب ذلك يعود إلى حجم الرعب المخزون والمتراكم في وجداني.
وقفت قبل عام في شارع ترابي على ضفاف النهر في مدينة الناصرية والنخيل على ضفتيه وإخترته مشهدا لهجرة "مسعود عمارتلي" في عربة يسحبها حمار تنقل الخضار من المدينة في فيلمي الأخير "بغداد خارج بغداد". كان الشارع مجللا برايات الإمام الحسين وعليها صوره التي لا تشبهه. رايات سوداء تضفي على الشارع وهجا قدسيا وكان علي أن أرفعها من المكان لأنها لا تناسب مشهد الهجرة وتاريخه. لم يجرؤ أحد من فريق العمل ولا فريق الإنتاج ولا المصورين ولا من يصاحبنا للتصوير حفاظا علينا من المتوقع. لا أحد يجرؤ على رفع الرايات من الشارع وكان وقت التصوير مناسبة أربعينية الإمام الحسين. الشارع ترابي وخلفة بضعة ادغال على ساحل النهر الندي، والهواء يحرك سعفات النخيل ويسمع حفيفها والحوذي يغني بصوته الرخيم الجميل وهو ينقل مسعود عمارتلي الحزين في عربته "من شفت دهري بحده المهجتي فيها، سجيت راجب ظنوني كاطع فيها، عن شجرة عن ارضها حرمت فيها". الوقت يمر والشمس ترتفع أكثر وهو لم يكن في صالح صورتي. إضطررت للذهاب بنفسي وبدأت أنتزع الرايات الواحدة تلو الأخرى. فريق العمل في وجوم كامل. جمعت كل الرايات وركنتها بكل إحترام على الجدار المقابل وأعطيت الإيعاز بالتصوير والتمثيل. طوال أداء المشهد الذي صورته مرات عديدة ومن زوايا متنوعة كان الخوف هاجس الجميع وعيونهم ترقب الشارع وهم يتهامسون خوفا من المتوقع، مأ أصابني ذلك بالرعب الذي بدأ ينتقل منهم نحوي مثل عدوى المرض. أوقفت التصوير لأن المشهد كان مشوبا بالخوف ولم يعجبني. ودعوتهم إلى إستراحة قصيرة حتى يتم التأكد من إنحسار هاجس الخوف الذي بات ملموسا بشكل مادي. ثم دخلنا في المشهد من جديد لكي نرى الواقع والمكان بحريتنا وليس بعيوننا!
هذه الحرية المفقودة في وطننا منذ العهد الملكي نسبيا ثم ضمورها بعد أن تقسم المجتمع العراقي إلى أحزاب وأعراق وطوائف وعشائر ما بعد ثورة 14 تموز ورعب شباط عام 1963 وتطور أشكال الخوف وحجم الخوف ونتاج الخوف وهيمنة الأحزاب السياسية والدينية على واقع العراق وإنتقال الخوف من بيوت الأشباح إلى الشوارع والساحات التي تحولت إلى مراصد للرعب تفقد الإنسان قدرة مشاهدة الواقع ومشاهدة المكان ومشاهدة ملامح الناس. صار الخوف ظاهرة مادية لها رموزها حتى في بيوت الناس. هذا الخوف يفقد قدرة الإنسان على النظر بوعي الجمال وبوعي القيمة الإنسانية للأشياء.
لم أر وطني ولم تشبعني الرؤية سوى المرات الإنطباعية أيام الطفولة والصبا، ولكن بعد النمو الإنساني المشوب بالمخاوف الحقيقية فإن سمة الخوف تنعكس على وضوح الرؤية سلباً، وهذا ما بدأت أكتشفه يوما بعد يوم ليس في تجوالي في شوارع العراق في زيارتي الأخيرة لوطني بل في قراري أن اشاهد أفلامي بهدوء وحدي لأكتشف بأن الخوف كان يمشي مع كل حركة الكاميرا عندي في الفيلم.
لست متشائما بما يكفي من التشاؤم ولست متفائلا بما يكفي من التفاؤل فإني هنا أتحدث عن حق الإنسان في أن يرى وطنه، لا أعني السفر إليه والمشي في شوارعه أو زيارة مراقده المقدسة، فهذه ليست سوى مسيرة آلية تحكمها الضرورة الإنسانية، أعني أن أرى وطني بحريتي حتى أحس طعم الأشياء وأشم رائحة التربة والأدغال ولون البرحي والتمر الأحمر في بدء نضوجه وأرى زرقة ماء دجلة وخضرة ماء الفرات واللونين في الشاطئ الموحد لهما. فالإنسان يرى بحريته وليس بعينية، ترى هل بقي من الوقت ما يمكنني من أن أرى وطني بحريتي وليس بعيني!
&