لايهم أن نُذكر هنا مجدداً التضحيات التاريخية للكرد من أجل الحفاظ على العلاقات الكُردية-العربية و التمسك بها في إطار الرابطة الحضارية و الدينية التي تربط الأمتين العريقتين في المنطقة. هذا أمر يعرفه المؤرخون العرب و الكُرد جيداً و كذلك الأجيال الواعية المتعلمة و حتى كل عربي و كردي بسيط و منفتح، أو غير المبتلي بخداع الآيديولوجيات القوموية المتطرفة، التي لاتُحسن الفعل أبداً سوى خلق الفتن بين القوميات و الأمم كآليات متهافتة و مُتلاعبة بعقول الشعوب إضفاءاً منها للشرعية على أجنداتها و ممارساتها الشوفينية المقيتة !.

و نقول هنا بصراحة أن الكُرد قدم كل تلك التضحيات بناءاً على تمسكه ببعد مركزي من أبعاد هويته المجتمعية المتمثلة في دين الإسلام، الذي يشكل دين أكثر من 90% من سكان أجزاء كردستان الأربعة، و كذلك إيماناً منه – كما يقول رسول الله (ص) في احاديثه، بأن " المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يكذبه ، ولا يحقره"..
كما أن الكُرد يعتبر تضحياته و إنجازاته من أجل نصرة الأسلام و المسلمين جزءاً لايتجزأ من دفاعه عن نفسه أيضاً، خصوصاً عندما تصل الأمور معه الى حد تعرضه للمحو و التدمير بسبب الهوية الدينية و عندما يعتبر الصليبي قديماً و المُستعمر حديثاً البعد الإسلامي لهوية هذا الشعب مبرراً لإضطهاده و قمعه و الثأر من دفاع الكُرد المشروع عن هذه الهوية ليس على أرضه فحسب و إنما – كما يفيدنا المصادر العلمية- على أجزاء كبيرة من العالم العربي و الإسلامي.

و قد تجل هذا الإخلاص الكُردي و الوعي الديني/التحرري المتجذر في روح أبنائه حينما قاد صلاح الدين الأيوبي، الكُردي العرق ( و هو أصلاً أبن أيوب بن شاذي بن مروان أبو المظفر، المنحدر من قرية دوين الواقعة قرب مدينة سنه في شرق كوردستان وهم من قبيلة هذباني الكُردية) عدّة حملات ومعارك ضد الفرنجة و غيرهم من الصليبيين الأوروبيين وذلك من أجل تحرير أرض الإسلام التي كان الصليبيون قد استولوا عليها في أواخر القرن الحادي عشر. و تشير لنا المصادر و الوقائع التاريخية بأن هذا القائد الكُردي المسلم، صلاح الدين الأيوبي، أنجز للإسلام ما لم ينجزه غيره حتى الآن!، أي " تمكنه في النهاية من دحر العدو بجيشه الكبير المكون من العرب و الكُرد و استعادة معظم أراضي فلسطين ولبنان بما فيها مدينة القدس، بعد أن هزم جيش بيت المقدس هزيمة منكرة في معركة حطين".


و لا حاجة هنا طبعاً، للحديث أيضاً عن مواقف الحركة السياسية الكُردية من القضايا التي تتعلق بالعالم الإسلامي و العربي، لاسيما موقف الكُرد من القضية الفلسطينية و مشروعيتها و التعاطي مع الشعوب العربية كأشقاء في الدين و الجغرافيا السياسية، فضلاً عن مساهمة الكرد في الحضارة الإسلامية من جميع النواحي السياسية و الفكرية و المادية و الثقافية و الأدبية و .الخ. يكفي لنا دوماً ذكرُ أهم المعايير المفهومة شعبياً للتعبير عن حققيقة عراقة و وطادة هذه العلاقة والذي يتمثل في قُدم ظاهرة المصاهرة بين أبناء القوميتين الى حد الإختلاط الإجتماعي بل أحياناً الإندماج الثقافي كما هو حاصل- مثلاً- منذ زمن بعيد بين أبناء مدن عريقة كردية و عربية مثل كركوك و بغداد في العراق، اللتين تمثلان نموذجين للتعايش و الأخوة على حد معلوماتنا المتواضعة حول خلفية هذه الظاهرة السوسيولوجية و قياسنا لتأثير الحالة الديمغرافية و حيثيات العلاقات الإجتماعية بين الكثير من الأجيال المتعاقبة في مثل هذه المدن منذ مطلع القرن الماضي لحد اليوم، و كذلك الحال نفسه في الشام و قامشلو في سوريا و أمثلة أخرى مماثلة.

أذكر هذه المسلمات هنا لأشير الى خطورة إشتغال أية قوى سياسية متطرفة من القوميتين على إشتعال نار الفتنة بين القوميتين الكُردية و العربية في العراق و سوريا، خصوصاً أن هذا الأمر مدعي للقلق أحياناً لدى الشعبين في المناطق الكُردستانية الواقعة في البلدين و المناطق التي تحت سيطرة الحكومات المركزية أو نفوذ القوى السياسية المُمثِلة للمكون العربي، و لاجدال هنا في أن أي فتنة من هذا القبيل مرفوضة كردياً رفضاً قاطعاً بل تشكل لدى االأكراد و قادتهم السياسيين و المثقفين الخط الأحمر، و لا نتصور في المقابل أي يكون ثمة عربي مسلم أو منفتح فكرياً و سياسياً يشاطر الفتن و المزيد من الحروب أو يتشبث بها، خصوصاً أن هذه الفتن أو غيرها بين المسلمين، هي في نهاية الأمر، ليست من مصلحة أحد سوى اللذين يستهدفون تدمير الراوابط الحضارية و الدينية بين الشعوب الإسلامية، و الذي يمثل أساساً الغاية الضمنية لأعداء الإسلام و شعوبه!، و يراد ترجمتها عبر المزيد من الحروب الأهلية و الأقتتال بين الشعوب المسلمة، التي ربما تختلف عن البعض، نسبياً، على الصعيد العرقي و الثقافي و المذهبي، ولكنها متقاربة مع البعض كثيراً، على مستوى الحضارة و الدين و العديد من العادات و القيم الثقافية ذات الجذور الروحية و الدينية و الإجتماعية.

مسوغ الوقوف على هذا الموضوع هو ملاحظة المرء لوصول هذا المستجد - للأسف - الى حد نوع من التوجه و التفَكُّر حينما نرى، من هنا أو هناك، شعارات و خطابات قوموية عنصرية تطلق من قبل بعض الأصوات العربية و الكُردية التي فشلت و تفشل دائماً في قراءة مجرى الأحداث نتيجةً لضيق الأفق و قصر النظر و كذلك طغيان منطق تعميم الحالات و التعتيم على الحقائق. و لا مراء من أن خطب هذه الأصوات الشاذة و توجهاتهم السياسية المتطرفة و الفاشستية لاتصب إلا في خانة سياسة زرع الفتن و خلق العداء بين الشعوب، خصوصاً حينما تُمهد لهم بعض الفضائيات العربية و أحياناً الكُردية، الأرضية و المنبر لبث هذه الثقافة العدوانية الباغضة تجاه القوميتين بذريعة الوقوف على الأحداث و التطورات الجارية في سوريا و العراق، أو التغطية الإعلامية للمسارات المفترضة لتلك الأحداث.


نحن الكُرد و العرب علينا أن نعي إن السماح بل التسويق إعلامياً للتفسيرات القوموية و العنصرية تجاه بعض الإحداث و مجرياتها أو بعض الظواهر النادرة الحصول هنا أو هناك، أو الحالات الفردية التي لا تعبر عن مواقف الأمم، يمثل في وجه آخر من وجوهه، جوهر المخطط الذي كان يسعى اليه بعض القيادات العراقية سابقاً ! و حالياً نظام بشار الأسد لضرب الحد الأدنى من وحدة الخطاب التي بدأت تتحقق بوادرها شيئاً فشيئاً بين أغلب الفصائل الثورية و القوى المُعارِضة على الساحة السورية و كل الأطياف المنضوية تحت شعار سوريا جديدة ديمقراطية خالية من الأستبداد و الدكتاتورية. و كذلك لدى كل اللذين يدعون الى" سوريا تصان فيها حرية وكرامة المواطن وحقوق الإنسان، بعيداً عن العسف والتمييز بسبب الدين والمذهب أو القومية والمعتقد". كما نجد ذلك كثيراً في العديد من البيانات الرسمية للقوى الكُردية توضيحاً منهم للخطاب و الموقف الوطني من الحالة السورية.

و إذا أردنا اليوم حقاً، بعد معرفة كل هذه المخاطر المحيطة بنا، إجهاض تلك النوايا الخبيثة، التي ترمي، بكل وضوح، الى إخفاق مساعي التكاتف و التلاحم بين قوى المعارضة و الى زرع الفتن بين الكُرد و العرب و خدمة المشاريع الجهنمية التي تفتت الشعوب المسلمة، فعلينا إذن التصدي و الصمود فكرياً و سياسياً و دينياً، و أن نعمل سويةً على تجنب شعوبنا المُسلمة من هذه النعرات المدمرة، و نواجه معاً و بشتى الوسائل المتاحة كل تلك الخطابات و الإتجاهات القوموية المتخلفة التي صارت تسوق لها أيضاً فضائيات و منابر إعلامية و مواقع مشبوهة على شبكات التواصل الإجتماعي، و يجب أن تكون هذه المواجهة عبر المؤتمرات و الندوات التثقيفية أيضاً و بمشاركة العقول العربية و الكُردية النيرة و بما يغذي القناعة و التسليم تجاه حقائق الأحداث، أي بمنطق العقل أو حكم التاريخ، أو بفكر الإسلام المتسامح، أو مبدأ الإختلاف و الديمقراطية، أو أي سبل أخرى تُبعِدنا من شرور الفتن و مذاق المحن، التي دمرت حاضرنا و مستقبلنا جميعاً ولا يمكن تحملها أكثر مما نحن عليه الآن من مآسي و آلام و جراح..
&