منذ ان صاغ الاديب والمفكّر الإنجليزي جورج جاكوب هوليوك مصطلح العلمانية ( Secularism) في العام / 1851 ونشر مقالاته في الصحف البريطانية وقتذاك وكأنه وخز العقل الديني بإبرة موجعة مخدرة جعلته لايستطيع ان يقف على قدميه باتزان كما كان من قبل وظلّ يترنح في مشيته واهنا ضعيفا حتى وقتنا الحالي بعد ان عرفت الشعوب ان الدين لم يعد كافيا لان يحسّن حياة الانسان خاصة وان الكثير من ملامحه ظلت غير مقنعة تماما ولم يحقق الاكتفاء والرضا والقبول في العقل ووعوده الآجلة ليست قابلة للتصديق في كل الحالات طالما ان العلم بقي بعيدا عن اهتماماته وقد قال بايجاز فيما كتب هوليوك : أريد ان أؤسس سعادة للجنس البشري في هذا العالم دون ايّ اعتبار للنظم الدينية او اشكال العبادة
لم يكتفِ هوليوك بنشر مقالاته التي هللت لها الجماهير المسحوقة وجماعة الانتلجنسيا المثقفة& بل اسس جمعية ذات طابع علماني صرف اسماها " جمعية لندن العلمانية " في العام /1855 وتبعتها جمعيات اخرى قام بتأسيسها مثقفون ابدوا حماسهم لرأي هوليوك وناصروه حتى انهم أنشأوا جمعيات مماثلة سرعان ماانتشرت في معظم بريطانيا ، ولم تكن ترفع شعاراتها المناهضة للدين كعقيدة سامية بل صبّت جام غضبها على مايسمون رعاة الدين المزيفين الذين كانوا يخدّرون الناس بان المسيح سيظهر لامحالة لتغيير الواقع المزري ولينقذ البشرية من الآثمين والجناة والأشرار ووقفت موقف المناوئ لهذه الفكرة التي تلهي الملأ انتظارا لمنقذ مخلّص ، كما انها لم تنكر ان هناك حساب وعقاب اخروي وثواب وأجر يناله الانسان آخر حياته ولايشغلها ما سيدار يوم القيامة بقدر ماكان يشغلها ان تثبت ركائز نظام عقلاني هو الذي ينتج سعادة للإنسان ومحيطا اقرب مايكون الى العدل بدلا من ان نغرق في الاحلام والآمال العريضة التي ربما تكون مضللة او خادعة او حتى كاذبة
فهل على البشرية ان تنتظر فردوسا قد يجيء او لايجيء ولماذا لانبني نحن القادرون فردوسا لنا في هذه الحياة لنمرح به سواء بسواء ونقضي بقية اعمارنا في ظلاله وليعش جيلنا وأجيالنا اللاحقة في ربوعه ؟؟ ، وكم يسعدنا لو اخلصنا لله وعمّرنا الارض بالعقل والكدح لنعمّر جنّة أرضيّة ناسوتية ليجزينا جنّة اخرى في ملكوته جراء ماعملنا من نظام يعدل ويساوي بين البشر ونكفل حرية كاملة للعقائد دون ان نحشر الدين او ندسّه فيما لايليق به
فالعلمانية في المجتمعات المتحضرة التي تتطلع الى حكم مدني تسعى لتحسين اوضاع الانسان باستخدام الوسائل المادية المتاحة وان العلم وحده هو الامل المنشود للبشرية كي تنهض بتشكيل اطر سياسية قائمة على المساواة بين افراد المجتمع والعدالة وحرية المعتقد والرأي لوضع بناء فوقي من القيم والقوانين الحديثة الراقية والخطط التنموية لتقوم بتحضير بناء تحتي متفوق يعمل على اسعاد الانسان وتخفيف اعباء الحياة عنه باعتبار ان العلمانية هي الحل والحل الامثل طالما ان الدين والموروثات السلفية الاخرى ومناهج الماضي وحيثياته لم تعد تواكب هذا الكم الهائل من النمو المتسارع في العقل البشري والابتكارات المذهلة التي تتسع يوما بعد يوم وتسارع خطواتها ومضمارها بينما بقيت الاطر القديمة تمشي مشي السلحفاة المتعبة اللاهثة
ومادام الدين قصّر عن تقديم الحلول الناجعة لمشكلات الانسان فلماذا لاتكون العلمانية هي دين الانسان المتحضر الناشد لنظام حضاري قائم على السواسية والحرية والانتخاب سيما ان ظهور العلمانية اساسا هي اعلان استقلال فكر الإنسان عن استعمار الاديان ، فقد ولّى الزمن الذي يعتبر الانسان الجالس تحت منبر الخطيب الديني أدنى منزلة ممن يعتلي منابر الخطابة والتلقين الفاسد للعقل الانساني فنحن نريد اخلاقيات اجتماعية نافعة تعمل على تطوير وإنماء وتحسين العقل البشري وبناء تنظيم اجتماعي قائم على العلم والنضج العقلي المحدث لا الغابر من اجل تطوير وتوجيه الطاقات البشرية وتوظيف المؤسسات للعمل والإنتاج فليس الدين وحده يحقق الخير فلنجرب ان تقوم العلمانية بهذه المسؤولية لان تحقق لنا بناء فوقيا رصينا وبناء تحتيا صلدا يعتمد في ركائزه على العلم والتكنوقراط والسواعد التي لاتركع كثيرا ولاتسجد خاشعة على طول الخط وانما ترفع رأسها للسماء شاكرة الاله على نعيم العقل وقوة العضل
ويخطئ من يظن ان العلمانية تسلب معتقدات المرء وتمنعه من اداء طقوسه الدينية التي يراها زادا روحيا له ووسيلة من وسائل الانتعاش الروحي لكنها تمنع المرء ان يتمادى لفرض او بسط سيطرته على الاخرين وفق قناعاته العقائدية بالإرغام او الترهيب والعنف والسطوة والإغراء المالي والوسائل غير المشروعة المناهضة لحرية الانسان وضد خياراته فلا يهمها ان آمن الانسان ام لم يؤمن وتبقى محايدة لاتميل لأحد ولاتعير بالاً لملحد ولاتعبأ بمؤمن بل بالعكس تتيح لكل فرد ان يعتنق مايشاء على هواه وليتعبد في كنيسته او مسجده او معبده ولايحق لأحد ان يمارس طقوسه داخل اروقة البنى التحتية للعلمانية ويؤذّن لصلاة العصر او المغرب وهو في البرلمان ويترك مناقشة اعمار مشروع مهم ما ليصلي الجماعة مع رهطه او يشرع في اداء التراتيل او التضرع للخالق في الوقت الذي يلزم ان يضع لبنَة تشييد صرح او انماء مشروع تنموي لبلاده او سنّ تشريع او قانون يحقق فوائد جمّة لمواطنيه
ومثلما للدين اخلاق سامية فللعلمانية اخلاق ذات مرامٍ وغايات سامية ايضا هدفها بناء الانسان المعاصر وتشذيب ماعلق من شوائب في العقل تعيق مدارج الرقي والنهوض للإنسان المتحضر ، وسمو اخلاق العلمانية تبدأ اولا بإسعاد الانسان وتنقية شوائب ماعلق بذهنه من بقايا تخلف وضيق افق ليتسع عقله ويفتح صدره لشهيق الحضارة ويتقبل الاخرين ويردم الهوة بين افراد المجتمع الواحد فلا سيد ولامسود ولاعالٍ او واطئ بين البشر فقانونهم واحد ووطنهم واحد يتساوون في الحقوق والواجبات ويخضعون للضرائب& ويمشون معا الى صناديق الاقتراع وكلٌ ينتخب مايراه مناسبا كي يختار نوابه كخدم للناس ويبقى المواطنون السواسية وهم السلطان الذي يختار خدمَهُ من النواب والوزراء والمسؤولين بما فيهم كبير خدم السلطان الذي يسمّى الشعب وهو رئيس الجمهورية للنظم الجمهورية او رئيس الوزراء في النظم الرئاسية
وكم حاول النصّابون الذين اصبحوا رجال دين طمعا في مالٍ أو جاهٍ أو حظوة ممن يريد ان يضع تاجا في رأسه وهو عاري الهامة ولا أتهم رجال الدين الحقيقيين الذين عفّوا انفسهم عن مغريات السلطة ولم يمتهنوا النصب والاحتيال وكان هدفهم رضا الرب عليهم واستكانة ضميرهم ان يتهموا العلمانية بانها تقف بالضد من الدين ولاتبيح للرجل المؤمن بخالقه ان يتبوأ مايستحق ليكون خادما لشعبه وهو يقتعد كرسي النخبة السياسية وبقي هؤلاء يلوكون ماقيل خطأ ان العلمانية اساسها فصل الدين على الدولة وإنما الامر لايعدو كونه إبعاد الدين عن البناء التحتي طالما ان مهمته روحية بين الخالق وعبده ، فليس عيبا ان ينأى الدين عن البناء المادي للإنسان بل العيب ان يزجّ به في معمعان السياسة الماكرة وألاعيب فن الممكنات التي لايجيد الدين فكّ شيفراتها ولايأنس القفز هنا وهناك مثلما تفعل السياسة اللعوب
ولايعني هذا ان السياسة فاقدة للأخلاق بل على العكس ان السياسة العلمانية هي مذهب اخلاقي وهذه الاخلاق يتم بناؤها وفق اعتبارات عقلانية ووعود بحياة زاهية لتحقيق اهداف سعيدة للإنسان اعتمادا على العقل والكدح وإتباع الحقائق العلمية الملموسة وهي وعود وآمال صادقة ، اما التضرع والاتكال على الله وكثرة الدعاء والتوسل والاستنجاد لتغيير الواقع المزري الى واقع افضل فهي من سمات العاجز الذي يلجأ الى الدين نكوصا واختلالا بالوعود المغلّفة بالكذب والأماني المضللة الخادعة التي يستحيل تحقيقها الاّ في المخيلة السقيمة الجاهلة وهذا هو العيب بعينه لا العيب في الدين نفسه الذي يحثّ على العمل والعمل الصالح حصرا لعمارة الارض وبناء لبنة تضاف الى لبنات البشرية
اذن العلمانية مفهوم ايجابي سامٍ حتى عندما تتعامل مع الدين لكنها ليست مع مصالح رجال الدين وطائفة الكهنة من الاكليروس وممرغي العقول في الاوحال ذوي النوازع والرغبات المادية النفعية ويستجدي الزكوات والأخماس والأفضال والصدَقات ممن شوّه الدين وسوّقه بانه معادٍ للعلم والنهوض والرقيّ والإنماء والمقبل المشرق فالكثير من هؤلاء ساقوا الدين نحو الاوهام والخرافات وانتظار المنقذ الناجي واستمرارية الضعف ورفع الايدي الى السماء بدلا من تشغيلها في الارض لتنتج نماءً ورقيا وصروحا عالية بالاعتماد على العقل الذي صاغه الله صنعا مبدعا خلاّقا مبتكرا وهاجا متنورا الى الابد
فليست العلمانية – كما يتهمها اعداؤها --& انها تحوّل المقدّس الى مدنّس ولم اجد دولة رفعت العلمانية شعارا لها امتشقت سيفها لتقطع رقاب الدين وتحوّل مريديه الى فناء تام وتبيد رعاته الى ابادة جماعية بل العكس هو الصحيح ، انها تريد تشريف الدين وتنزيهه ممن يركبه ويعيث به فسادا وإفسادا وإبعاده عن الخصوم السياسيين له كي يحافظ على جسده بعيدا عن معمعان الخصومات السياسية التي لاتقف عند حدّ ، فعزل الكنيسة والمسجد الجامع والمرجعيات الدينية الاخرى هو تشريف للدين نفسه فما اجمل وافضل من منصب تشريفي عارٍ من الصلاحيات التي تثقل كاهله وتلهيه عن اداء رسالته السماوية التي تدعو الى الخير والسلام والمحبة مثل أبٍ مهيب الجانب أقعدته الشيخوخة ولم يعد قادرا على اعالة مجتمع كثير المطالب وعلى أولاده وأحفاده نزع المسؤوليات منه ليعيش بيننا معززا مكرّما
هذه هي اخلاق العلمانية التي تقرّ بحرية المعتقد دون ان تلزم الاخرين بفرض رأي او معتقد او فكر بعينه وتنصت للاختلاف على الاّ يشهر سلاحه تجبّراً واستعراضاً للقوة واذا كان الدين يحوز اخلاقا رفيعة تقترب وتدنو من الكمال فان العلمانية هي الاخرى تحوز اخلاقيات راقية مؤسسة على مبادئ الخلق الطبيعي للإنسان في التطلع الى العدالة والسواسية والبناء المحكم لخدمة البشرية ونشر الخير والحب والمدنية والديمقراطية من خلال المذهب الوضعي الاخلاقي ، فهي اذن تتمّ مابدأه الدين وتكمل وظيفته بعد ان اظهر عجزه امام كثرة تعقيدات الحياة وتزاحم الفِكَر وتنوع المعضلات البشرية لابتكار حلول اكثر عقلانية لما يعانيه الانسان الجديد وهي المهمة العسيرة التي أوكلت للعلمانية وارتضتها عن طيب خاطر وتكفلت ان تعمل لإسعاد الانسان الجديد دون ان تتعكز على الاوهام الدينية الغيبية والماورائيات التي لاتجدي نفعاً

[email protected]
&