من مفكرة سفير عربي في اليابان

ناقشنا في الجزء الأول من المقال تعريف السياسي، في التجربة اليابانية، بالانتهازي المتفائل، ليعمل بتناغم مع معارضيه لانتهاز أية فرصة ممكنة، وبتفاؤل، ليحقق لمجتمعه الاستقرار والأمان والازدهار والسعادة. كما طرحنا على زعيم المعارضة البحرينية سؤالا عن نوعية الاصلاحات الديمقراطية التي ينادي بها: هل هي على النمط الإيراني، أم اللبرالي الغربي؟ أو على النمط الهندي والجنوب أفريقي؟ أم يفضل تجارب الاصلاح الكنفوشيسية في اليابان وكوريا، أو الصين؟
لنبدأ عزيزي القارئ بتدارس تحديات الديمقراطية الغربية، والتي يكمن تحسس مشاكلها من خلال ما كتبه عالم الاقتصاد الأمريكي، بول كروجمان الحائز على جائزة نوبل، بصحيفة الهيرالد تربيون في الاسبوع الماضي، بقوله: quot;في الواقع يبدو بأن هناك تناقض صارخ في زيادة تصاعد التباين في الثراء بالولايات المتحدة. فمنذ نهايات السبعينيات بقت رواتب النصف السفلي من القوى العاملة كما هي، بينما ارتفعت الرواتب لأربعة أضعاف بين 1% في القمة، بل زاد أكثر من ذلك بين 0.1% في القمة. وسنحتاج لنقاش جاد عما يجب أن نفعله، وتبقي الحقيقة المبسطة هي أن الرأسمالية الأمريكية (وبديمقراطيتها الغربية) التي هي اليوم تقلل من شأن الطبقة الوسطى، تحتاج لمراجعة.quot;
كما علقت المجلة الاقتصادية البريطانية، دي ايكونومكيست، في افتتاحيتها في الشهر الماضي بقولها: quot;ستكون تأثيرات التكنولوجيا القادمة كالأعاصير الهوجاء، وستصدم العالم المتقدم أولا، ولكنها ستنتشر في باقي دول العالم، ولن تكون أيه حكومة مستعدة لها .. والأسوأ من ذلك هو أنه قد بدأت الموجة التكنولوجية في أخلال سوق العمل، وستدمر وظائف كثيرة، بعد أن أصبحت الالة أكثر ذكاءا .. وتبين دراسة جامعة اوكسفورد بأن 47% من وظائف اليوم، قد تقوم به الآلة خلال العقدين القادمين.. ففوائد التكنولوجية متباينة مجتمعيا، وعلى الحكومات أن تعمل على خلق عدالة توزيع ثراءها الجديد. ففي القرن التاسع عشر احتاجت الشعوب انذار الثورة لتحقيق الاصلاحات، واليوم أمام الحكومات الفرصة للإصلاح قبل أن تغضب شعوبهم.quot;
ولنراجع رأي مفكري الغرب، عن تحديات الديمقراطية الغربية، ورأسماليتها الفائقة، في عالم العولمة الجديد، لنبدأ من حيث ما انتهي الغرب، لا أن نبدأ من حيث بدأ الغرب. فقد كتب جون كين في كتابه، حياة وموت الديمقراطية، يقول: quot;لقد قطعت الممارسات السياسية في القرن الواحد والعشرين كالمنشار في جسم الديمقراطية. وهي لن تغفر للشعوب، والسياسيين، والأحزاب، والبرلمانات، بتحويلها للعبة غير مؤثرة. فلم تعد آلية تدافع عن مصالح الشعب، وزاد حجمها وتكلفتها أكثر بكثير من فعاليتها الحقيقية، كما أصبحت أحزابها وبرلماناتها متحجرة، وبقايا لزمن مضى.quot;
فقد فقدت الجماهير ثقتها بالاحزاب السياسية، ففي عام 2000، قدرت نسبة المواطنين المنضمين للأحزاب في الهند وجنوب أفريقيا بحوالي 10% من مجموع المواطنين المسجلين للانتخابات، وتعتبر هذه من الأعلى النسب في العالم. بينما انخفضت هذه النسبة في الدول الأوروبية إلي 5%، بعد أن كانت 15% في عام 1960. فقد خسرت الأحزاب الفرنسية مليون من أعضائها، أي ثلثي مجموعها الكلي، خلال الفترة من عام 1980 وحتى عام 2000، وتركت 50% من الأعضاء الأحزاب الهولندية. كما قل أعضاء الأحزاب البريطانية خلال فترة 1950- 2000، لينخفض عدد حزب العمال من مليون إلى مائتي ألف، وحزب المحافظين من مليونين ونصف إلى ثلاثة مائة ألف. فبعد أن فقدت هذه الاحزاب شعبيتها، دعمتها لوبي الشركات، لتتحول صورة رجل السياسة: quot;لرجل أبيض الشعر، بثياب أنيقة، محارب لمصالحه الشخصية، وذي سمعة قريبة من سمعة بائعي السيارات، ودلالي العقارات.quot;
كما تساءلت الكاتبة الهندية، ارونداتي روي: quot;ما الذي فعلناه بالديمقراطية؟ وما الذي سيحدث حينما ينتهي عمرها الافتراضي، فتصبح ديمقراطية جوفاء خالية المعنى؟ وماذا الذي سيحدث حينما ينتشر سرطانها الخبيث في مؤسسات مجتمعاتنا؟ وما الذي سيحدث بعد اندماجها بالسوق الحرة المنفلتة، وتحولها لكائن مفترس نهاب، ضمن تصور ضيق، يحوم بأكمله حول فكرة، الزيادة القصوى للربحية؟ وهل ممكن أن نعكس هذه الآلية؟ وهل تستطيع الحكومات المحلية، التي تعتمد بقائها على مكتسبات قصيرة الأمد، أن تحقق رؤية طويلة الأمد للحياة، في قرية عولمة صغيرة؟ وهل فعلا ديمقراطية الغرب هي الجواب المقدس لأمانينا، لتدافع عن حريتنا الشخصية، وتحضن أحلامنا الجشعة؟ وهل ستكون الورقة النهائية في لعبة الجنس البشري؟ ألا يعكس رغبة الإنسان المعاصر لها، أعظم حماقة لقصر نظرنا، وعدم قدرتنا على العيش كاملا في حاضرنا؟ ويبدو بأن ذكائنا المدهش قد تجاوز غريزة بقائنا، فننهب الأرض، أملا في أن تعوضنا مادياتنا المكدسة ما فقدناه من فكر عميق، وأدراك حكيم، وروحانيات إنسانية، والتي لا يمكن قياسها بالمال والجاه.quot;
وأما الكاتب البريطاني، ديفيد هوول، فعلق بقوله: quot;العالم يمر بأزمة شرعية سياسية، بعد أن فقد مواطنو الغرب، الثقة بحكوماتهم وطبقاتهم الحاكمة. فقد بينت استطلاعات الرأي بالاتحاد الأوربي، بأن أكثر من 80% من الناخبين لا يثقون بأحزابهم السياسية، والثلثين منهم يشككون في حكوماتهم. وأكد استطلاع رأي أجري في 18 دولة متقدمة، بأن 63% من المواطنين يعتقدون بأن السياسيين مشغولون بمصالحهم الشخصية، كما تبخرت فكرة أن الحكومة تملك الحكمة، وتمثل مصالح الشعب. وخاصة بعد أن انتشرت شفافية تكنولوجية العولمة بالانترنت، لتكشف زيف ادعاءات سياسيو الغرب، وتصرفاتهم المخزية. وتؤكد الدراسات في مختلف دول العالم بأن الشعوب تنظر لسياسييها كمصدر لقوانين غير فاعلة، وتصريحات جوفاء، وبعدم كفاءة عجيبة.quot;
ولنحاول أيضا عرض تجربة كنوفوشيسية مختلفة في التعامل مع الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية. فقد كتب الصحفي الأمريكي، فريد زكريا، بمجلة نيوزويك يقول: quot;لقد كانت دهشة عام 2009، الصين، التي لم تتجاوز الأزمة فقط، بل نمت من خلالها. فنمى الاقتصاد الصيني، وارتفعت صادراته من جديد، وزادت مدخراته في الخارج لأكثر من 2 تريليون دولار، كما رفعت الحكومة نسب الصرف لتطوير البنية التحتية. وتم كل ذلك بسياسات حكومية صائبة، بتطبيق فلسفتها الكونفوشيشية، الأزمة خطر وفرصة. فبينما اصطدمت حكومات الغرب بأزمة عام 2008 بدون استعداد مسبق، فصرفت الكثير في دعم مؤسساتها المالية، لتزداد ديون دولها. بينما عايشت الصين الأزمة وهي تدخر الأموال الكثيرة، بل كانت ترفع من نسب الفائدة لكي تهدئ من سرعة نموها الاقتصادي، كما كانت بنوكها مليئة بأموال مدخرات المستهلكين. فاستطاعت حكومتها مع بدء الأزمة، تطبيق قواعد العلوم الاقتصادية بسهولة، لزيادة نموها الاقتصادي. فخفضت نسب الفائدة، ورفعت الصرف الحكومي على تطوير البنية التحتية، والتعليم، وسهلت القروض للمستثمرين، وشجعت المستهلكين على الصرف. فبانضباطها في سنين الطفرة، استطاعت أن تسهل أمور شعبها في الأزمة.quot;
وقد علق فريد زكريا على التجربة الصينية: quot;المزيج الصيني بين التدخل الحكومي، والسوق الحرة، والدكتاتورية، والكفاءة هو مزيج محير.quot; فقد تفرغ الصينيون لتطوير مجتمعهم ببرغماتية واقعية، بعيدا عن الأيديولوجيات المفرقة، والثوريات الانفعالية، وبدءوها بتطبيق فلسفة زعيمهم الراحل دنغ: quot;لا يهم إن كان القط أبيض أم أسود ما دام يقوم بصيد الفئران.quot;
ولنراجع أخيرا تجربة عربية، بعد هدوء طوفان ما سمي بالربيع العربي، وبعد أن تخلصت مصر من كابوس المتاجرة بالدين، فقد كتبت النيويورك تايمز الدولية تقول: quot;بعد الية عنف طويلة، استطاعت تونس أن تنتج أكثر دستور لبرالي في العالم العربي، وبموافقة الجميع .. ولم يستسلم النواب من مختلف الاطياف السياسية، ليحتاجوا لأكثر من عامين ليتدارسوا جميع بنود الدستور الجديد، حتى دعمه الجميع، وفي النهاية صوت عليه بنعم 200 من 216. ومع أن الدستور ذكر الاسلام هو دين للبلاد، ولكنه ضمن حرية العبادة وعلمانية حكم القانون، كما منع القانون التعذيب، وضمن للمرأة مشاركتها في النظام السياسي. وانتقلت السلطة لحكومة مؤقتة، يرأسها المهندس مهدي جمعة، وزير الصناعة السابق، ويتوقع أن تتم الانتخابات نهاية هذا العام .. وقد دعمت بقوة جمعيات حقوق الانسان ومنظمات المجتمع المدني تونس لتحقيق دستورها الجديد.. وقد أكد الانجاز التونسي الرائع بأن التوافق بين العناصر السياسية المتفرقة والمتحاربة ممكن، وبأن احترام الحقوق الديمقراطية والحرية تتماشي مع الايمان العميق بالقيم الدينية والثقافية، وهذا درس قيم لباقي العالم العربي، وما بعده.quot;
وأما توماس فريدمان فكتب انطباعه عن التجربة التونسية بقوله: quot;فلو كنت مرتبكا عما يحدث في العالم العربي وتتساءل كيف يجب أن يتصرف الرئيس أوباما فكر في ثلاثة أسئلة: 1. لماذا الدولة العربية التي تمكنت من تطوير ديمقراطية توافقية، تونس، هي الدولة التي أقل ما تدخلت في أمورها الولايات المتحدة؟ 2. لماذا أهم ثلاثة أرقام نتذكرها عن العالم العربي اليوم هي الواحد والخمسة الالاف والخمسمائة الف؟ .. ولنبدأ بتونس فقد حققت دستور جديد برضا الجميع الحزب الاسلامي والمعارضة العلمانية، فما هو السر؟ لقد اتفقت القوى الدينية والعلمانية في تونس بأنه ليس هناك منتصر، ولا مهزوم. ففي جميع هذه الدول العربية المتعددة المذاهب والاعراق، فإن لم تقبل جميع الاحزاب الرئيسية بجوهر مشاركة السلطة، وتدويرها، فليس هناك فرصة للانتقال من الحكم الفردي ألى سياسات المشاركة. وطبعا تونس لديها خصوصة أخرى، فلديها مؤسسات مدنية قوية، استطاعت أن تلعب دور الوسيط اللاحزبي لتقارب وجهات النظر الحزبية. كما لم يكن للجيش جذور متعمقة في الاقتصاد التونسي تستفيد من التدخل في اللعبة السياسية. ويؤدي كل ذلك لهذه الارقام: فحينما يقرر افراد الشعب أن يعيشوا في تناغم معا، تحتاج فقط لقائد موحد كنلسون منديلا ليدفع بالنظام السياسي ليعمل بانتاجية مبدعة. بينما إن لم يرد شعبا اطرافه المتنازعة العمل معا، بل رغب في الانفصال، كالبوسنيا، فتحتاج لخمسة آلاف جندي للمحافظة على السلام. ولو لم يرد شعبا أن يعيش مع بعضه، وفي نفس الوقت لا يريد الإنفصال، بسبب فقدان الثقة، أو قلة الارهاق، أو لأن طرف ما يعتقد بأنه يملك كل شيء ويريد المحافظة عليه. فحينها تحتاج لخمسمائة ألف جندي سلام يدخل البلد، ويتخلص من الدكتاتور، ويقضي على المجموعة المتطرفة من كل الاطراف، ويحمي الوسط لفترة طويلة، بينما يحاول خلق مواطنة جديدة، ونظام حزبي يستطيع مشاركة السلطة، ومع ذلك الفشل وارد.quot;
ويبقى السؤال: هل حان الوقت لكي يقرر افراد الشعب البحريني أن يعيشوا في تناغم متفائل، ويلتفوا حول مليكهم الحكيم، ليدفعوا بالإصلاحات الاقتصادية والسياسية، لتحقيق التنمية المستدامه، ليحققوا الاستقرار، والأمان، والسعادة، والرخاء، لمجتمعهم؟ ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان