الحلقة الأولى


إذا ما تأملنا في التطورات السياسية التي أعقبت الثورة الإيرانية يمكننا أن نلاحظ مسألتين بارزتين: الأولى هي أن إيران وحدها من بين جميع الدول العربية والإسلامية تخضع لحكم الملالي (رجال الدين الإيرانيين)، والثانية هي أن إيران قد انتقلت تحكم حكم الملالي منذ بداية ثورتها وحتى الوقت الراهن من فترة وحالة الثورة إلى فترة وحاله الدولة، ثم إلى فترة وحالة الحرس الثوري. وقد تكون إيران حالياً مقبلة على فترة وحالة رابعة لم تتضح معالمها حتى الآن. ولكل فترة من هذه الفترات الثلاث خصائص وسمات سياسية تميزها عن الفترتين الثانيتين وتجعلها تختلف عنهما بشكل واضح وذلك بالرغم من وجود بعض ملامح التشابه بينها. فكل واحدة منها هي فترة وهي حالة في نفس الوقت. فهي فترة. (والبعض يسميها مرحلة) من حيث سياقها التاريخي التعاقبي. وهي حالة لأن مظاهرها وخصائصها السياسية تختلف عما قبلها وما بعدها وأن توضيح هاتين المسألتين في السياسة الإيرانية قد استلزم إطالة المناقشة والتحليل فالمعذرة من القارئ أولاً ومن إيلاف ثانياً.
لقد اهتمت أدبيات الفكر السياسي بدراسة الثورات قديمها وحديثها فقامت بتصنيف أنواعها وفسرت أسبابها وشرحت مشاكلها ونجاحاتها وإخفاقاتها، وتعاقب الفترات أو المراحل التي تأتي بعدها. وبالعودة إلى مسألة حكم الملالي في إيران أقول بأن هذا النموذج من الحكم يمثل ظاهرة جديدة في الدول العربية والإسلامية تنفرد بها إيران وحدها. صحيح أن رئيسا إيران الأول أبو الحسن بني صدر وما قبل الأخير محمود أحمدي نجاد ليسا من الملالي ولكن الأول حكم تحت هيمنة الخميني، كما خضع نجاد بدوره لإشراف ومباركة كبار الملالي المتشددين المدعومين من قبل الحرس الثوري الإيراني، وأن أساس وجوهر حكم الملالي في إيران ينطلق حقيقة من مبدأ (ولاية الفقيه) الذي يقوم عليه نظام الحكم في إيران. وكان هذا الأساس ومازال يطرح إشكالية كبيرة ويؤدي إلى خلق العديد من المشاكل في السياسة الإيرانية. وإذا تأملنا في وضع الدول العربية والإسلامية الأخرى نجد أن المشايخ ورجال الدين فيها يشكلون المرجعية الدينية، ويحاولون في نفس الوقت التأثير في السياسات العامة الداخلية والخارجية في دولهم ولكنهم لا يحكمون. وأما ملالي إيران فإنهم يسيطرون على حكم إيران بشكل كامل، فهم المرجعية الدينية والسياسية والعسكرية في إيران. ولهذا فلقد استخدم بعض المحللين السياسيين مصطلح (دولة الملالي) أو (حكم الملالي) عند الإشارة إلى إيران ولتوضيح اختلاف هذه الظاهرة الإيرانية الفريدة عن بقية الدول العربية والإسلامية يمكن أن نستشهد بوضع الأحزاب السياسية في بعض هذه الدول والتي دخلت لعبة السياسة وحكمت أحياناً بوصفها أحزاباً سياسية إسلامية، وليس بوصفها علماء أو مشايخ المسلمين. فلا الأزهر الشريف ولا غيره من مؤسسات المرجعية الدينية في الدول الإسلامية الأخرى حاولوا أو سعوا للوصول إلى الحكم في دولهم. وعندما حاول الأخوان المسلمون بمصر في ظل حكم مرسي أن يطبقوا الأطروحات الدينية لبعض مشايخهم واجهتهم العديد من المشاكل السياسية التي لم يتمكنوا من الصمود أمامها.
ولهذا تبقى ظاهرة حكم الملالي في إيران هي حالة فريدة في العالمين العربي والإسلامي ولا وجود لمثيل لها حتى في الدول والخلافات العربية والإسلامية القديمة. فليس لها وجود في الخلافتين الأموية والعباسية ولا في الدولة العثمانية أو في الأندلس ولا في الدولة الأيوبية أو دولة المماليك أو حتى في الدولة الفاطمية.
فبعد دولة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو نبي هذه الأمة، ودولة الخلفاء الراشدين الأربعة من بعده رضي الله عنهم أجمعين- والذين تمثل دولتهم هي ودولة رسول الله الأعظم حالة خاصة، أصبح الخلفاء والسلاطين المسلمين يتولون أمور سياسة الحكم (بما فيها من ضمان لتطبيق الشريعة، وعدل وأمن وجهاد)، ويتركون أمور الدين والافتاء والقضاء للعلماء والمشايخ. ومع زيادة تطور أمور الحياة وتعقيدها في الدول والمجتمعات الإسلامية أصبحت مسألة ابتعاد رجال الدين عن مناصب الحكم السياسية العليا في دولهم تشكل ـ كما أرى ـ ضرورة ينبغي الأخذ بها. وأن عدم الالتزام بها وترك رجال الدين يحكمون يجعلنا نقف وجهاً لوجه أمام إشكالية نظام (ولاية الفقيه) كما هو موجود في إيران.
فهل يمكن من الناحية العملية للحكام السياسيين في الدول العربية والإسلامية أن يكونوا من المؤسسة التي تتولى أمور الإفتاء والقضاء وتفسير الأحكام الدينية؟ الجواب طبعاً هو بالنفي.
ولهذا فإن زعماء وقادة الدول الإسلامية الحديثة (باستثناء إيران) سواء أكانوا ملوكاً أو رؤساء أو سلاطين أو أمراء، فإنهم يمسكون أمور الحكم والسياسة في دولهم، وأما أمور الدين فتقع تحت مظلة العلماء والمشايخ الذين يتولون القيام بها تحت إشراف القادة.
وبعد أن استعرضت أعلاه ظاهرة حكم الملالي المباشرة في إيران والتي لا مثيل لها بالعالم أجمع إلا في الفاتيكان ذات الظروف الدينية الخاصة، وبعد أن بينت الإشكالية السياسية لنظام (ولاية الفقيه) في إيران، أنتقل لعرض وتحليل الفترات الثلاث التي مرت بها إيران منذ ثورتها وهي (إيران الثورة)، و(إيران الدولة)، و(إيران الحرس الثوري).

1- إيران الثورة: (1979-1989):
في أواخر عام 1978م ثارت إيران ضد دكتاتورها المستبد شاه إيران الذي كان حقيقة طاغية متسلطاً من الدرجة الأولى. فقبل الثورة بخمسة عشر عاماً وخلال المظاهرات التي شهدتها إيران عام 1963 قتل الشاه خلال أيام محدودة الآلاف من المتظاهرين المحتجين على حكمه. وأثناء أسابيع الثورة الأولى في ديسمبر 1978 ويناير 1979 أعطى الشاه أوامره لضباطه بقتل جماعي للمتظاهرين في الشوارع ولكنهم لم يلتزموا بتنفيذها بسبب الحشود الهائلة جداً للجماهير. ولقد ضمت قيادات الجماهير الثائرة فصائل وأجنحة عديدة ولكن السيطرة الرئيسية كانت لملالي الثورة وعلى رأسهم أية الله الخميني زعيم الثورة التي قادها من الخارج قبل عودته إلى إيران في آخر يناير 1979. وبعد سقوط الشاه استمرت مرحلة الثورة وقراراتها لمدة عقد كامل من الزمن. فماذا حدث في هذه الفترة المعروفة (بإيران الثورة)؟ في السنة الأولى التي أعقبت انتصار الثورة. شهدت إيران صراع أجنحة وفصائل الثورة التي ضمت الإسلاميين بقيادة الملالي والليبراليين الديمقراطيين وعمال النفط اليساريين. ولأن ملالي الثورة ومن ورائهم الحشود الهائلة للجماهير كانوا هم القوة المهيمنة الفعلية في الثورة فلقد كان من الطبيعي أن يسيطر الملالي على حكم إيران سيطرة كاملة. ونجحوا في إقصاء زعماء الثورة الآخرين الذين لا ينتمون إليهم. كما قاموا باستبعاد حتى كبار الملالي المعتدلين الذين لم يوافقوا على كل مواقف وقرارات الثورة الحماسية والمتشددة، فلقد نجح الجناح الأقوى بالثورة الإيرانية في إقصاء جميع الأجنحة الأضعف فيها ومن إسكات جميع الأصوات المعتدلة في صفوف الثورة. وأثناء عملية السيطرة هذه شهد عام 1979 الكثير من عمليات السجن والقمع والقتل التي نفذتها بعض ميليشيات الثورة المتشددة، ولقد كانت سنة صراع الأجنحة والفصائل في إيران متشابهة لحد كبير مع احداث صراع الأجنحة الذي أعقب انتصار الثورتين الفرنسية والروسية، وغيرها من ثورات العالم الرئيسية. فالثورة الإيرانية بدأت تأكل بعضها وتأكل أبناءها فعلاً منذ بدايتها. وفي أواخر 1979 أصبح أبو الحسن بني صدر أول رئيس للجمهورية الإسلامية الإيرانية دون أن يكون من الملالي وذلك بسبب قربه من قائد الثورة الخميني الذي منع الملالي من تولي منصب رئيس الجمهورية حسب بعض التقارير، وكان بني صدر على أي حال ـ كما وصفه البعض ـ أقرب إلى الرئيس الشكلي من الرئيس الفعلي لإيران وذلك خلال فترة رئاسته القصيرة ـ حيث كانت القوة الفعلية بيد الخميني.
وإضافة إلى الانفلات الأمني وعدم الاستقرار السياسي الذي عرفته إيران أثناء عملية صراع الأجنحة على السلطة فإن أهم مشاكل سياسات (إيران الثورة) تضمنت على الصعيد الاقتصادي أولاً تطبيق ما عُرف بسياسة العدالة الاجتماعية التي دفعت بإيران نحو الاقتصاد الموجه بعيداً عن نظام السوق. ولكن سياسة العدالة الاجتماعية لم تنجح من جهة في تحقيق أهدافها المنشودة، كما أنها جاءت بنتائج سلبية على (البازار) الإيراني من جهة أخرى. وأما الإنفاق على الخدمات العامة والبرامج التنموية الرئيسية فلقد نقص كثيراً بسبب توجيه مصادر الدولة وإمكاناتها نحو المجهود الحربي بسبب ظروف الحرب مع العراق. وبصفة عامة فلقد تورطت (إيران الثورة) (1979-1989) بأربعة مشاكل رئيسية هي: حجز الرهائن الأمريكيين، والعمل على تصدير الثورة، والحرب مع العراق، وتسيس الحج. ولقد حاولت إيران في جميع هذه المشاكل أن تزحلق أسبابها للأطراف الأخرى المعنية بها وتقوم بلومها. فخلال الأسبوع الأول من نوفمبر 1979 قام عدد من الطلاب الإيرانيين باحتلال السفارة الأمريكية في طهران وباحتجاز بعض الرهائن الأمريكيين مدفوعين على الأغلب من بعض ملالي الثورة فيما عرف وقتها بأزمة الرهائن. ولم يتم إطلاق سراحهم إلا بعد دقائق فقط من استلام الرئيسي الأمريكي رونالد ريغن لمنصب الرئاسة الأمريكية في يناير 1981. وكان الرئيس ريغن خلال الفترة الانتقالية البسيطة التي تفصل بين فوزه بالانتخابات وتسلمه الفعلي للسلطة قد حمَّل الحكومة الإيرانية مسؤولية احتجاز الرهائن الأمريكيين ومسؤولية النتائج الوخيمة التي ستلحق بإيران إذا لم تفرج عن الرهائن المحتجزين في السفارة.
ويبدو أن إيران الثورة قد خافت من تهديد الرئيس ريغن، وأدركت أن أسلوبه في التعامل معها سوف يختلف عن أسلوب الرئيس كارتر الذي اتهمه بعض المحافظين الأمريكيين بالضعف أمام إيران أثناء تعامله الطويل مع أزمة الرهائن.
وبعد يوم واحد فقط من إطلاق الرهائن الأمريكيين قام الخميني بإعفاء الرئيس بني صدر من منصبه وتولى حكم البلاد بنفسه. وربما جاء توقيت عزل الرئيس بني صدر عن منصبه لإلهاء الإيرانيين وصرف نظرهم عن مسألة الأذعان الإيراني للتهديد الأمريكي وأفادت التقارير الإيرانية وقتها بأن عزل بني صدر ارتبط بفشله في جهود الحرب العراقية الإيرانية التي بدأت في سبتمبر عام 1980. أن دعم الملالي الثوريين في إيران للطلاب الشباب المتحمسين الذين احتجزوا الرهائن الأمريكيين يعكس حقيقة أول مواقف الثورة الإيرانية غير العاقلة والذي دفعت إيران ثمنه فيما بعد من خلال إذعانها لتهديد أمريكا التي تسميها إيران (الشيطان الأكبر).
والخطأ المبكر الثاني الذي ارتكبته الثورة الإيرانية أيضاً ودفعت ثمنه باهظاً تمثل في تورطها بالحرب مع العراق وإصرارها على الاستمرار فيها. صحيح أن صدام هو الذي بدأ الحرب على إيران مستخدماً ذريعة نزاع شط العرب إلا أن السبب الحقيقي للحرب جاء نتيجة تبني إيران لسياسة تصدير الثورة للعراق وتدخلها في شؤونه الداخلية. فبسبب تأثر العراقيين بروح واحداث وإعلام الثورة الإيرانية ارتفعت أصواتهم ضد حكم دكتاتور العراق صدام حسين. ولقد اختارت إيران من جانبها العراق لبدأ تنفيذ سياسة تصدير الثورة إليه لأسباب تاريخية ومذهبية تربط بين الدولتين، ولهذا فلقد أقدمت إيران على تجييش وتعبأة ودعم فئة كبيرة من العراقيين ضد النظام العراقي. واعتبر صدام من جانبه تدخل إيران في شؤونه بمثابة إعلان صريح للحرب ضده وهو الأمر الذي جعله يبادر بمهاجمتها. ولو أن إيران - كما يعتقد بعض المحللين- قد تركت صدام بحاله عندئذ لتركها بحالها.
وبيت القصيد هنا هو أن قرار تصدير الثورة الذي اتخذه ملالي إيران الثوريين قد أدى إلى إشعال حرب الخليج الأولى التي جلبت الدمار لكلا الدولتين وخلقت العديد من المشاكل لهما. ولكن هذه هي طبائع الثورات. فدولة الثورة تعجز بعد ملحمتها الأولى مع نفسها عن تجنب التورط في تصدير ثورتها للدول المجاورة وذلك بالرغم من جميع العواقب والويلات التي تترتب عن ذلك. فتجارب الثورات الأخرى تدل بوضوح على فشل محاولات تصدير الثورة، كما تبين دموية الحروب التي تنتج عنها. ولكن إيران الثورة لم يكن بإمكانها أن تدرك ذلك حتى ولو أرادت إدراكه فعلاً. وهناك درس مهم آخر من التاريخ لم تنجح الثورات وخاصة الثورة الإيرانية في تعلمه. فتصدير الثورة يمتزج غالباً بمحاولة مد نفوذ الدولة صاحبة الثورة لخارج حدودها وهو الأمر الذي جعل شعوب الدول المجاورة للثورات تلتحم حول حكوماتها الوطنية بدافع حسها الوطني وتشارك في محاربة دولة الثورة بعد اتضاح أخطارها.
فأي بضاعة كانت (إيران الثورة) تحاول تصديرها؟ لم يكن لديها حقيقة أي نموذج جيد يُحتذى به. وعندما يكون النموذج مليء بالمشاكل والمساوئ وعدم الاستقرار فمن يريده؟ لقد دفعت سياسة تصدير الثورة بإيران كما ذكرت أنفاً نحو هاوية الحرب مع العراق. ولقد نسبت التقارير الدولية لقائد ومرشد الثورة الإيرانية أية الله الخميني قوله عند موافقة إيران على إنهاء حربها مع العراق: (بأن شرب السم عنده كان أهون عليه من قبول وقف الحرب) أي أنه كان يتمنى استمرار الحرب بالرغم من دمارها فقط لكي يعاقب صدام. ويقترب كلام الخميني هذا من كلام مشابه لإمبراطور اليابان قاله عندما وافق على اتفاقية وقف الحرب مع أمريكا، وذلك بالرغم من اختلاف الحالتين حيث أن إيران لم تخرج منهزمة أمام العراق مثل هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية أمام أمريكا. فحرب إيران والعراق انتهت بوضع (لا غالب ولا مغلوب) لكلا الطرفين. والسؤال المهم الذي ينبغي طرحه على ملالي (إيران الثورة): هل الحرص على تصدير الثورة وتوسيع النفوذ كان كافياً للتورط بالحرب مع العراق والإصرار على إطالة أمدها؟
لقد كان الخميني قائد ثورة بامتياز ولكنه لم يكن سياسي بارع في أمور الحكم، وإضافة إلى ما سبق فإن مواقف (إيران الثورة) السلبية اشتملت على محاولاتها تَسيّس الحج في عدة مواسم ومن ضمنها احداث الشغب التي قام بها الحجاج الإيرانيين في عام 1988 والتي أدت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران لمدة ثلاث سنوات. وعلى الرغم من أن ملالي ثورة إيران يعرفون تماماً أن هدف الحج هو العبادة إلا أنهم أصروا على محاولة استغلال تجمع المسلمين في موسم الحج لتحقيق بعض أهدافهم السياسية.
لقد كانت هذه الأحداث والسياسات هي أمثلة على مواقف (إيران الثورة) والتي أضرت بإيران وبشعبها فكيف أصبحت الحالة السياسية في ظل (إيران الدولة)؟

يتبع

كاتب المقال حلل سياسي سعودي