من مفكرة سفير عربي في اليابان

عرضنا في الجزء الأول معضلة quot;يسكونيquot; اليابانية، وطرحنا السؤال التالي: كيف ستتعامل حوارات الشعب الياباني مع هذه المعضلة، للمحافظة على انجازاته التكنولوجية والاقتصادية، وتمنع تكرار مجابهة حرب كارثية؟ وهل سيستفيد شعب مملكة البحرين من هذه التجربة للتوصل لحوار توافق وطني متناغم، يحقق لمملكة البحرين الامن والاستقرار والإزدهار، ولشعبها السعادة والثراء والرخاء؟
يعلق البروفيسور في كازوهيكو توجو، على وجهتي النظر المختلفتين، ليؤكد بأنه يتفق مع الذين يعتقدون بأن الصعود الصيني فرصة لليابان، وليس تحدي، وبضرورة الندم على سلبيات التاريخ الياباني خلال الحرب العالمية الثانية، ولكنه من الناحية الاخرى يختلف مع من يكرر بأن زيارة رئاسة الحكومة للياسكوني ليست إلا احترام لضحايا الحرب، والدعوة للسلام، وبدون النية لتبجيل الماضي، وبأن ندب موتى الحرب هو موضوع عاطفي شخصي، وليس من حق أحد، وحتى الحكومات الاجنبية، التدخل فيه، ويجب ألا يستخدمها أحد كورقة دبلوماسية. كما لا يتفق مع بعض القيادات اليابانية بأن هذا الخلاف لن يحل إلا حينما تغير الصين رأيها في الموضوع، وبأن الصين تستخدمها كورقة دبلوماسية لتسجيل نقاط. بل يرى البروفيسور بأن على الشعب الياباني احترام عواطف جيرانه بعد مآسي الحرب، ويطالب البرلمان بإصدار قرار لتعليق زيارة الحكومة لليسكوني، حتى يأتي الوقت المناسب لرفع هذا الحظر.
ويوضح البروفيسور الياباني بأن هناك سببين لتعليق زيارة الحكومة: quot;الأول متعلق بأسباب واقعية وأخلاقية، بعيدا عن رأي السيد كويزومي بأنه موضوع عاطفي شخصي، أو الحكومة الصينية بأنه لا يجوز زيارة ضريح يجمع فيه المحكومين بجرائم لحرب، فلا يمكن الشك بأن هذا الخلاف يعرض الحوار بين قيادات البلدين للخطر، وخاصة بأن هناك أمور جوهرية تحتاج للاتفاق عليها. ولذلك هناك حاجة لإيجاد طريقة عقلانية للخروج من هذا المأزق، وطبعا يحتاج ذلك لمبادرة شجاعة من أحد الطرفين، وفي رأيي يجب أن تبدأ اليابان بهذه المبادرة. لأن مراجعة التاريخ تبين بأن اليابان كان الطرف المعتدي، وعليها أن تكون متواضعة وتبدأ الخطوة الأولي للتقارب، ولن يجلب ذلك لها إلا الكرامة الاخلاقية.quot;
ويعتقد البروفيسور بأن السبب الثاني أكثر أهمية: وهو أن على اليابان أن تبدأ مراجعة هويتها بعد الهزيمة. وقد تكون الياسكوني أحد أهم التناقضات الجوهرية التي يعيشها العقل الياباني، وعليها استخدام هذه الفرصة لتواجه تاريخها بصراحة، لتصل لاتفاق شعبي. ولتحقيق ذلك تحتاج اليابان لفضاء للتنفس بحرية، بتعليق زيارة اليسكوني، كما تحتاج الصين لنفس الفضاء لتتبصر تاريخها وموقفها ما هو إلا تعبير عن قرن من الإهانة من انتهاكات الاستعمار الاوربي، والعدوان الياباني. كما على اليابان دراسة اصلاح الياسكوني، وطرح حوار شعبي حول المسئولية التاريخية للعسكر، وبعدها القيام بعمل جوهري، إنشاء متحف عن تاريخ ما قبل الحرب. وفي الحقيقة ترجع هذه المعضلة لقرار أخذته الإدارة الأمريكية وحكومة اليابان. فقد كان الياسكوني أهم ضريح في ديانة الشنتو الحكومية، والتي كانت الايديولوجية الاساسية لعساكر اليابان قبل الحرب، بل كانت المحرض الرئيسي. وكان واضحا بعد الحرب، ضرورة القضاء على ديانة شنتو الدولة، مع المحافظة على اليسكوني لندب ضحايا الحرب، وذلك ببقائه كمؤسسة دينية أو تحويله لمؤسسة علمانية حكومية. وقد تم الاتفاق بتركه كمؤسسة دينية، وبذلك حافظ على دوره العام، لإيمان الجنود بالاجتماع مع رفاقهم بعد الموت فيه، ووفرت الشنتو الطقوس المناسبة لذلك، مع أن الدستور فصل الدين عن الدولة. وبذلك أعطيت إدارة اليسكوني الحرية لتقرر رؤيتها عن التاريخ الياباني، بدون تدخل حكومي، وليعرض متحفه الايديولوجية العسكرية المتطرفة التي أدت إلى الحرب.
وعقب البروفيسور: quot;ليست جميع السياسات المطروحة خاطئة، بل أشارك quot;اليسكونيquot; في بعض أرائه. فأنا حفيد شيجينوري توجو، الذي عين مرتين وزير خارجية اليابان، في الحكومة التي بدأت الحرب، وفي حكومة سوزوكي التي أنهت الحرب. فقد كان quot;توجوquot; رجل سلام، وعارض بشدة العساكر، بل دفعهم للانسحاب من الصين، كما عمل على دفع اتفاق بانسحاب اليابان من الهند الصينة، بشرط تعليق الولايات المتحدة حظر تصدير النفط لليابان، ولكن انتهت محاولاته بالفشل، ليقدم وزير الخارجية كورديل هول في 26 نوقمبر من عام 1941 اخر اندار بضرورة الانسحاب الياباني بدون أية شروط، في الوقت الذي توجهت الطائرات اليابانية للهجوم على الاسطول الامريكي في بيرل هابر، والذي سبب الإعلان ألأمريكي الحرب على اليابان، والذي ادى بحرق المدن اليابانية بالقنابل الأمريكية التقليدية، وإلقاء القنبلتين النوويتين على مدينتي هيروشيما ونجزاكي، ولينتهي باستسلام اليابان في عام 1945. وقد شكلت قوى الحلفاء محكمة أدت للحكم على 14 مسئول ياباني بجرائم الحرب من الدرجة quot;ألفquot;، وتم شنق سبعة منهم، بينما حكم على سبعة اخرين بالسجن.quot;
وعلق البروفيسور: quot;لقد بقت مسألة عدالة محكمة الحلفاء عرضة للتفسيرات المختلفة في اليابان، ولم يصل الشعب الياباني إلى تصور متفق عليه. ولكن لا اتصور بأن الياسكوني هو المنظار الوحيد الذي يتدارس الشعب الياباني من خلاله تاريخه. فقد لعب ياسكوني دورا مهما في المحافظة على تصورات الشعب الياباني قبل الحرب، ولكن بعد 60 عاما فهناك وجهات نظر مختلفة حول تاريخ الحرب. وقد يكون الوقت المناسب لكي يحترم يسكوني دوره الاساسي، وهو ندب موتي الحرب، الذين دفعوا ثمن حياتهم لمفاهيم تقاليد الشنتو الدينية. وفي نفس الوقت، قد يكون من الضروري فصل هذه التقاليد والوظائف الممثلة في متحف يوشوكون، عن ضريح يسكوني ونقلها لمكان اخر.quot;
ويستمر البروفيسور: quot;هناك حوار بين الشعب الياباني حول بناء تذكار خارج عن ضريح يسكوني لضحايا الحروب. ولكن في نفس الوقت اعتقد بأنه من المهم أن يحترم شعور ضحايا الحرب الذين أمنوا بأنهم سيلاقون رفاقهم بعد الموت في الياسكوني. فالذين يعز عليهم ذكرى أقاربهم، يصعب عليهم القبول بوجود مكان اخر للندب على ضحايا الحرب. والخوف بأن يؤدي تشييد بناء تذكاري اخر لموتي الحرب لخلق نوع من الاستقطاب بدل التسوية. وفي رأيي المتواضع هو أن يكون الحل في اصلاح يسكوني، لكي يكون مقبولا من معظم اليابانيين والأجانب بقدر الامكان. فالمسئولية الكبرى الاولي هي تحويل يسكوني لمكان لندب ضحايا الحرب فقط، وليس مكان لمعرفة وجهة النظر معينة، والتي دفعت اليابان للحرب العالمية الثانية. فإصلاح اليسكوني يجب أن يتعلق بالخلاف الدستوري حول وظيفته.quot;
فقد بدأت وظيفة يسكوني بعد الحرب العالمية الثانية، بمسؤوليتين: مسئولية دينية، بمسئولية الندب على ضحايا الحرب. ولكن المادة العشرين من الدستور الياباني فصل بين الدين والسياسة، وكنتيجة لذلك برزت تناقضات بين التوقعات المجتمعية والقانون. وقد بدأت تبرز احكام قضائية بأنه زيارة رئيس الحكومة لضريح يسكوني مخالف للدستور، لأنه يصلي بصفة دينية محددة، تمنح امتياز وحصانة لضريح معين، وربما لعقيدة معينة. وبينما يعتقد البعض بأن ندب رئيس الحكومة لضحايا الحرب بصفته الشخصية لا يتعارض مع الدستور، ولكن المشكلة هي بأن من دفعوا ثمن التضحية بحياتهم، يتوقعون بأن يقوم رئيس الحكومة بالزيارة كجزء من واجباته الحكومية. وتتعلق نقطة الحوار الاخرى بما قررت محكمة الحلفاء بأنهم مجرمي الحرب، وقضية ندبهم في يسكوني. فمنذ عام 1985 تصر الصين بأن الندب في يسكوني لضحايا الحرب، هو ندب مجرمي الحرب الأربعة عشر، التي حكمت عليهم محكمة دولية، وقبل بذلك المجتمع الدولي. وتختلف وجهات النظر اليابانية حول هذا الموضوع، فالبعض يتفهم وجهة النظر الصينية، ويصر على ضرورة احترام وجهة النظر هذه. بينما يصر البعض الاخر بأن الطلب الصيني غير مقبول، فمن حق أية دولة ندب ضحايا الحرب بالطريقة التي تجدها مناسبة، وبدون تدخل الاخريين. كما يطرح البعض الاخر بأن الشعب الياباني ليس لديه تقاليد محاكمة الموتى بعد وفاتهم، كما أن من حوكموا كمجرمي حرب من قبل محكمة الحلفاء لا يعتبرون مجرمي حرب حسب النظام الجزائي الياباني، بالإضافة بأن الانظمة اليابانية سمحت بدفع راتب تقاعدي لعائلات المحكومين بجرائم الحرب، كباقي ضحايا عساكر الحرب. ومع أن ضريح يسكوني قبل مجرمي الحرب الدرجة quot;ألفquot;، ولكن الحقيقة هي أن الحكومة اليابانية هي التي قامت بتقديم قائمة لمجرمي الحرب درجة quot;باءquot; ودرجة quot;جيمquot; في عام 1959، بينما قدمت في عام 1966 القائمة quot;ألفquot; لمجرمي الحرب، التي ضمت سبعة حكموا بالإعدام، وسبعة ماتوا في السجن. وقد بدأ ضم هؤلاء إلى يسكوني في عام 1978، بعد أن تم في نهاية خمسينيات القرن الماضي الإعفاء عن جميع مساجين جرائم الحرب، بموجب الية وافق عليها الحلفاء.
وطرح البروفيسور السؤال التالي: quot;هل فعلا انتهت جميع اشكاليات ما بعد الحرب بذلك المنطق؟ ويبدو بأن الجواب لا. فقد لعب الجيش الياباني دوره في معاناة الشعب الصيني، وتدمير بلادهم، والتي هي الحقيقة التي قبل بها رئيس الوزراء الياباني كويزومي، وعبر عن اعتذاره وأسفه الشديد عن ذلك. ولكن بعد أن قام الجيش الياباني بإعمال تحتاج الاعتذار يبقى السؤال الحقيقي: من كان مسئول عن ذلك؟ وسؤال مسئولية الحرب، مرتبطة مباشرة بالقبول بحقيقة مجرمي الحرب الدرجة quot;ألفquot;، الذين كانوا هم المسئولين الحقيقيين عن الحرب، وهم الذين ضمهم اليسكوني. وحتى يجد الشعب الياباني الجواب لهذا السؤال: هل ممكن أن نتجاهل دلالة الدرجة quot;الفquot; لمجرمي الحرب؟ ويؤكد البروفيسور بضرورة تعليق البرلمان زيارة الحكومة لضريح اليسكوني حتى يتفق الشعب الياباني على الجواب الصحيح لهذا السؤال. ولنا لقاء.
د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان