التنكر للحقائق، والنظر للأمور من زاوية واحدة، والتشبث بما لنا وإغفال ما علينا من الأمور التي اعتدنا عليها في مجتمعاتنا. لم نعتد على العدل والاعتدال وإعطاء كل ذي حق حقه. نسلّط الأضواء على إنجازاتنا ونخفي أو نبرر أو نحمل الأخرين وزر سقطاتنا. حين ندافع عن قضايا نهتم فقط بما يساند وجهات نظرنا بينما نهمل ما لا يتفق معها أو يعارضها. نكيل بمكاييل عديدة ومختلفة لأنفسنا وللمحيطين بنا من أصدقاء وأعداء. إذا اعتدى أحد علينا فهو شيطان رجيم يجب القصاص منه، وإذا اعتدينا على أحد فهذا حق مشروع لنا ودفاع طبيعي عن النفس. إذا تعرضنا للمضايقات فهذا اضطهاد وتمييز وتفرقة عنصرية، وإذا اضطهدنا وميّزنا وفرّقنا بين البشر فهذا إما احترام للتقاليد أو نزول على رغبة الأغلبية أو تطبيق شرع الله واجب النفاذ. هكذا حال الأمور في مجتمعاتنا.
من الأمثلة الفجة للتنكر للحقائق هذه الأيام الحديث عن مجازر للمسلمين في جمهورية أفريقيا الوسطى. الكُتاب على صفحات الجرائد والمجلات والمعلقين على شاشات الفضائيات والمشايخ على منابر المساجد يدينون بكل قوة ما يحدث للمسلمين في تلك الدولة مدقعة الفقر. ووصل الأمر بالبعض إلى الدعوة للجهاد لحماية المسلمين من هجمات الكفار. لا يمكن لأحد بالطبع أن يعترض على إدانة كل عمل مسلح وكل جريمة ترتكب بحق الإنسان وكل تطرف ديني أو فكري، لكن ما يحدث في أفريقيا الوسطى يتخطى بكثير مسألة ما تتعرض له الأقلية المسلمة هناك هذه الأيام. الحياد والاعتدال يتطلبان منا وقفة لفهم ما يحدث بعيداً عن التشنج والتعصب لطرف ضد أخر، وبعيداً عن تصوير الأمر على أنه إسلاموفوبيا ومجازر إبادة يرتكبها متطرفون مسيحيون.
من المهم توضيح أن جمهورية أفريقيا الوسطى من الدول التي لم تعرف طعم الاستقرار منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960. توالت على إدارتها أنظمة إنقلابية عسكرية فاسدة ودكتاتورية لم توفر للشعب هناك الخدمات اللازمة رغم وفرة الموارد، ما شجع المعارضة على التمرد العسكري في عدد من الحالات. في نوفمبر 2012 بدأت الأمور في التدهور عندما استولت قوات متمردة مسلمة، مدعومة بمسلحين تشاديين وسودانيين، أطلقت على نفسها اسم quot;سيليكاquot;، على عدد من القرى في شمال ووسط البلاد. ورغم مساعي الوساطة الفرنسية لاحتواء الموقف وقبول الرئيس فرانسوا بوزيزيه بضم المتمردين إلى الحكومة، إلا أن الأزمة سرعان ما تصاعدت بسبب رفض quot;سيليكاquot; البقاء في المناصب التي عينوا بها في الحكومة. استمر المتمردون المسلمون في الاستيلاء على المدن حتى صلوا إلى العاصمة بانجوي ما اضطر الرئيس بوزيزيه للفرار.
في 24 مارس 2013 نصّب قائد المتمردين المسلمين ميتشيل دجوتوديا نفسه رئيسا لأفريقيا الوسطى ليصبح أول مسلم يتولى حكم الدولة التي تبلغ نسبة المسلمين فيها 15% فقط. بعد وصولها للحكم بدأت quot;سيليكاquot; في ارتكاب مجازر يندى لها جبين الإنسانية بحق الأغلبية المسيحية في البلاد راح ضحيتها الألاف من الأبرياء. كما قامت quot;سيليكاquot; بحرق الكنائس ونهب المساكن والمحلات المملوكة للمسيحيين، ما اضطر ما يزيد على مليون مواطن، أو نحو ربع إجمالي السكان، للفرار إلى مخيمات للاجئين خارج المدن وخارج البلاد. مع تصاعد الضغوط الدولية لوقف العنف ضد المواطنين العزل، أضطر دجوتوديا لاصدار قرار quot;صوريquot; بحل قوات quot;سيليكاquot; وسحب أسلحتها. لكن أحدا لم يلتزم بالقرار، ومضت quot;سيليكاquot; في ارتكاب جرائمها البشعة.
استدعت المأساة الإنسانية تدخل الاتحاد الأفريقي وفرنسا لفرض حل يضمن وقف المجازر وتوفير الغذاء للاجئين. تم الاتفاق في نوفمبر 2013 على أن ترسل فرنسا مع عدد من الدول الأفريقية قوات لحفظ السلام. ومع استمرار الضغوط على نظام حكم quot;سيليكاquot; أضطر دجوتوديا للخضوع لرغبة المجتمع الدولي، حيث ترك منصب الرئاسة في 10 يناير 2014 بعد عشرة أشهر في السلطة تمزقت خلالها البلاد وتفتتت فيها وحدتها الوطنية.
لكن رحيل قائد quot;سيليكاquot; عن الرئاسة لم يحل أزمة أفريقيا الوسطى، إذ اتخذت الأحداث منحنى بغيضا أخرا عندما شكل بعض المواطنين هناك فصيلا عسكريا، أطلقوا عليه اسم quot;ضد السيفquot; للانتقام من أفراد quot;سيليكاquot; والمتعاونين معها. لا يفوت علينا هنا مغزى اسم quot;ضد السيفquot; الذي اختاره الفصيل، إذ أن السيف يرمز للإسلام، وهو نفسه السلاح الذي استخدته quot;سيليكا في قتل الألاف من المسيحيين. كانت أغلبية الفصيل العسكري من المسيحيين، بينما كان أفراد quot;سيليكاquot; والمتعاونين معهم من المسلمين. تحول المجني عليه إلى جاني والظالم إلى مظلوم. لم يكتف الفصيل باستهداف quot;سيليكاquot;، لكنه استهدف أيضا الأقلية المسلمة التي كان بعضها تعاون مع quot;سيليكاquot; أو قدم لها التسهيلات. وقد أسفرت العمليات الإجرامية لـquot;ضد السيفquot; عن مصرع العشرات وربما المئات من المسلمين، بعضهم من أعضاء quot;سيليكاquot; والبعض الأخر من الأبرياء.
اليوم وبعد مضي نحو ستة أسابيع على تحول الأمور، تسعى الأمم المتحدة الأن بقوة لاتخاذ إجراءات حاسمة لحماية المسلمين وإيقاف نزيف الدماء في البلد الأفريقي الجريح، حيث تقدم الأمين العام للأمم المتحدة بطلب إرسال قوات أممية لمساعدة القوات الأفريقية والفرنسية في فرض الأمن والسلام. وحتى لا يتهم المجتمع الدولي بالتراخي في التعامل مع مسألة مذابح المسلمين، دعونا نُذَّكِر أن الأمم المتحدة لم تتدخل حين كانت المذابح تطال المسيحيين. حتى فرنسا بالاشتراك مع دول الاتحاد الأفريقي تدخلت بعد نحو ثمانية أشهر من مذابح المسيحيين.
الأمر إذن ليس حرباً دينية يشنها المسيحيون ضد المسلمين كما يُصَوِّرُ الإعلام في مجتمعاتنا. الأمر له علاقة بالثأر والانتقام ويتحمل المسئولية الأكبر فيه متمردو quot;سيليكاquot; المسلمون الذين حمّلوا تمردهم السياسي أبعاداً طائفية حين ارتكبوا جرائم حرب ضد المسيحيين راح ضحيتها الألاف. لا يعني هذا أن رجال quot;ضد السيفquot; أبرياء. أبداً هم مجرمون لأنهم يرهبون ويروعون ويقتلون.
ما يقوم به مسلحو quot;ضد السيفquot; لا علاقة له بالمسيحية على الإطلاق، إذ تؤكد تقارير واردة من قلب أفريقيا أن الأقلية المسلمة لا تجد ملاجيء أكثر أمناً من الكنائس. ينقل تقرير نشره موقع مجلة quot;التايمquot; عن وكالة quot;الأسوشيتد برسquot; عن أحد مواطني أفريقيا الوسطى يدعى محمود لامينو قوله أنه لولا الكنيسة وقوات حفظ السلام ما كان بقي حياً حتى اليوم. يقول التقرير أن قساوسة الكنائس أعطوا كل ما يملكون لحماية المسلمين. وينقل التقرير قول القس ديو سيني بيكوو quot;بالنسبة لنا ليسو مسلمين أو مسيحيين. هم أناس ndash; أناس في خطر. quot;ضد السيفquot; ليسو مسيحيين. هم لصوص ينتفعون من الغضب ضد المسلمين.quot; http://world.time.com/2014/02/24/muslims-seek-refuge-in-c-african-republic-church/
لا شك في أن القتل بكل أنواعه وبدون استثناء إجرام لا يمكن القبول به. وإذا كان مسلمو أفريقيا الوسطى أخطأوا في البداية حين عاثوا فساداً في البلاد وراحوا يرتكبون المجازر، فالفصيل المسيحي الذي ينتقم اليوم يخطيء عندما يهدد ويروّع ويقتل الآمنين ويرتكب نفس الأخطاء التي يُعَاقَب بسببها المسلمون.
إذا تغاضينا عن تحميل الطرف الباديء بارتكاب الجرائم مسئولية ما وصلت إليه الأمور في أفريقيا الوسطى، فإنه بموضوعية شديدة يمكن التأكيد على أن الطرفين ارتكبا نفس الأخطاء ويستحقان محاكمة دولية على جرائمهما المشينة. لكن الإعلام والمنابر وقادة الرأي العام في مجتمعاتنا لا يعترفون بذلك. هم لا يرون جرائم الطرف المسلم. هم يُفَعِلون حواسهم ويرون ويسمعون فقط حين يكون المسلمون الطرف المظلوم، لكنهم لا يُفَعِلون حواسهم ولا يرون ولا يسمعون حين يكون المسلمون هم الطرف الظالم. ربما يفسر هذا عدم تناول الإعلام وعدم إدانة المشايخ للجرائم التي يرتكبها مسلمون ضد مسيحيين في كثير من البلدان كنيجيريا، على سبيل المثال، والتي يقتل فيها عشرات المسيحيين بصفة شبه يومية. إعلامنا غير محايد ومنابرنا غير موضوعية، وبين عدم الحياد وعدم الموضوعية تغيب الحقائق وتتوه في بحور التطرف والكراهية والرغبة في الانتقام.





التعليقات