في اليومين الأخيرين هبت علينا رياح منعشة طيبة أعادت إلى نفوسنا الثقة بالغد، وأحيت فينا الأمل في عودة العافية إلى الفكر الديني، ويقظة صوت السلم والحرية والوسطية في ساحة الدين الإسلامي (الجديد) المسالم المتفتح الراغب في مصاحبة العصر والانسجام مع حركة الشعوب الناظرة إلى أعلى لا إلى أسفل، والمنطلقة نحو المستقبل الآتي القريب والبعيد، لا إلى الماضي المثقل بالخرافات والأساطير والغيبيات البائسة التي أعمت العيون، وحجرت القلوب، وسودت العقول، وحولت الدين إلى غازات سامة وقنابل ومتفجرات وسكاكين وخناجر وسيوف.

ثلاثة أحداث مهمة جدا جاد بها علينا اليومان الأخيران، في مواجهة الطوفان الديني السياسي السلفي التكفيري المتزمت الذي ظل يتدفق علينا منذ نهاية الخمسينيات حاملا معه طوابير طويلة من اليافعين العرب والمسلمين الذين لم يتوفر لهم تعليم عصري يفتح عيونهم على حقائق العصر والعلم وعلى مسيرة الشعوب الأخرى المتسارعة نحو عالم جديد قائم على مزيد من التسامح والتآلف والتلاقح، بل تركوا نباتا صحراويا دون رعاية، حتى تلقفهم رجال دين مغلقون على الماضي، (يجاهدون) من أجل إعادة الأمة مئات السنين إلى خلف، إلى أيام الحلاقة على الرصيف، ورجم الزانية بالحجارة حتى الموت بالشبهة ودون شهود عدول، وقطع يد الجائع التي امتدت إلى رغيف، ومنع الشعر والرسم والنحت والغناء والموسيقى، وإعدام القائل بأن الأرض كرة تدور حول نفسها وحول الشمس، وتكفير المسافرين إلى النجوم التي خلقت رجوما للشياطين.

الحدث الأول تمثل بالمنتدى العالمي الذي عقد في أبوظبي، تحت عنوان (تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة)، وحضره عشرات المفكرين من مختلف دول العالم لمناقشة القضايا الإنسانية التي تسببت بها الصراعات الفكرية والطائفية في المجتمعات المسلمة، ولاتخاذ موقف موحّد لمعالجة حدة الاضطرابات وأعمال العنف غير المسبوقة في العالم الإسلامي، التي لم تستثنِ أي نوع من الأسلحة، وأدت إلى الإساءة لصورة الإسلام.

والحقيقة أننا لا نملك إلا أن نعجب بجرأة الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية الإماراتي وشجاعته وصراحته حين أعلن في افتتاح المنتدى أن quot; الصراعات الفكرية والطائفية في المجتمعات المسلمة سببها غياب صوت العقل، وانحسار مبدأ تقبل الاختلاف الذي جبلت عليه الخليقة، وتصدر (أشباه العلماء) مواقع الريادة ومنابر الفتوى، واحتلالهم لوسائل الإعلام المتنوعة، فاستخفوا رهطا من الناس، فانساقوا خلفهم من دون وعي ولا درايةquot;، وأن laquo;الشريعة الإسلامية السمحة نزلت بمقاصد سامية وقيم راقية، لتعزيز السلم وحفظ الأنفس وصون الدماء وإفشاء السلامquot;، quot;وأن الدين الحنيف جاء لجمع الكلمة وإشاعة المحبة وبث روح الوئام بين الناس، على اختلاف دياناتهم وتنوع عقائدهمquot;.

والأهم الأهم دعوة الشيخ عبد الله إلى quot;إعادة الأمة إلى صوابهاquot;.

أما الحدث الثاني فتمثل بإصدار عشرة من علماء الدين الشيعة من محافظتي القطيف والأحساء السعوديتين بيانا مشتركا حذروا فيه الشباب من quot; الانجراف خلف توجهات العنف والتطرف، مؤكدين أن سلوك العنف لا يحل مشكلة ولا يحقق المطالب بل يزيد المشاكل تعقيدا، فضلا عن تحقيق مآرب الأعداء الطامعينquot;. مؤكدين أن quot; استخدام السلاح والعنف في وجه الدولة أو المجتمع مدان ومرفوض من قبل علماء المذهب وعموم المجتمع. وأعلنوا أن العنف لا يحظى بأي غطاء ديني أو سياسي، مشيرين إلى أن مجتمعات الأمة بليت في هذا العصر بجماعات وتيارات متطرفة تمارس الإرهاب والعنف تحت عناوين دينية وسياسية، والدين بريء من الإرهاب، مؤكدين أن العنف السياسي يدمر الأوطانquot;. وquot;أن سيرة أئمة أهل البيت وتوجيهاتهم الهادية، تؤكد على حفظ وحدة الأمة ورعاية المصلحة العامة، فضلا عن رفض أي احتراب داخلي حماية للسلم والأمن في مجتمع المسلمينquot;.

أما الحدث الثالث فهو الدعوة العاقلة التي أصدرتها الجمعية (السعودية) الوطنية لحقوق الإنسان لجميع شباب السعودية الذين تورطوا بالانضمام إلى بعض التنظيمات أو الأحزاب أو التيارات خارج المملكة إلى quot; الاستفادة من الأمر الملكي الذي تضمن منح كل من شارك في أعمال قتالية خارج المملكة، بأي صورة كانت، مهلة إضافية مدتها 15 يوما اعتباراً من تاريخ صدور الأمر، لمراجعة النفس والعودة عاجلاً إلى الوطن، والتراجع عن الاستمرار في البقاء في مواطن الفتن، خاصة وأن بعضهم قد عاين الواقع وعرف حقيقتهquot;.

ماذا لو صدرت، بالمقابل، فتاوى مؤيدة ومباركة لهذه البشائر الثلاث من المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، ومن مراجع (شيعية) أخرى في بلاد المسلمين كافة؟

وماذا لو صدرت دعوات مشابهة من مراجع دينية وعشائرية (سنية) نافذة في العراق وسوريا والأردن ومصر ولبنان والبحرين واليمن؟ ألا يكون ذلك نصرا كبيرا لثقافة السلم والوسطية والعقلانية على ثقافة العنف التي جعلها بعض المتدينين المتخلفين هوية معلنة للإسلام والمسلمين؟.

وألا تكون بشرى سارة بإطلالة عصر جديد في عقل هذه الأمة تضاء فيه مصابيح الإيمان بحقائق العصر وعلومه وحضارته المتجددة، وتدفع به مرة أخرى إلى حركة التاريخ السائر بعزم إلى أمام؟