من مفكرة سفير عربي في اليابان

طرحنا في المقال السابق، ديمقراطية البرلمانات أم كفاءة القيادات، الأسئلة التالية: هل الديمقراطية هدف أم وسيلة؟ وما هي الاهداف؟ هل هي التنمية المستدامة؟ ومن سيحقق هذه التنمية؟ هل أنظمة الدستور؟ أو نوعية النظام؟ أم حكمة وإخلاص مؤسسات وقيادات السلطة؟ أم سلوك وعقلانية المواطن وجهوده المبدعة؟ وهل ممكن خلق تنمية بدون حكومة فاعلة، وبقيادات مخلصة؟ وهل تحتاج الحكومة الفاعلة للطاعة؟ وهل ممكن خلق دولة عصرية بدون مقومات الدولة العصرية، الدستور، القانون، النظام، الانضباط، الأمان، والطاعة؟ ألم تثبت ثورات الشرق الأوسط بأنه، في عالم العولمة الجديد، لم تعد quot;انتفاضات الفوضىquot; هي الحل، بل الحل في ثورة الفرد على نفسه، في روحانياته وسلوكه واخلاقياته وعلمه، وبقدسية الوقت واحترام العمل، ليتحول لمواطن مخلص، ومنتج، بجهوده المبدعة، لتحقيق التنمية المستدامة، لخلق مجتمعات تكنولوجية متقدمة، وذات انتاجية عالية؟
ينتقد الديمقراطية الغربية البروفيسور النرويجي ستين رنجن، أستاذ علم الاجتماع والسياسات الاجتماعية، بجامعة اوكسفورد، في كتابه الجديد، أمة من الشياطيين-القيادة الديمقراطية ومعضلة الطاعة، بقوله: quot;لقد ساءت الديمقراطية الامريكية لتصبح نموذجا لديمقراطية غير فعالة. ففقد المواطنون الثقة في السياسيين، وتآكلت اسس الحكومة الجيدة، وارتفعت نسب اللامساواة لدرجة مخيفة. فقد حرم معظم الأمريكيين من التنمية الاقتصادية، لتنحصر في يد قلة جشعة، تشترى القوة السياسية على حساب الديمقراطية، ولتقسم المواطنين نحن وهم، الذين يعيشون في عالم اخر. كما أنه ليس هناك احساس بالمشاركة المجتمعية، فقد فقد المواطن الثقة في الحكومة، والكونجرس، بل فقد الاعلام مسئوليتة الوطنية، ليصبح أداة لمن يدفع أكثر.quot;
ويؤكد الكاتب على ما قاله ارسطو: quot;بأن الانسان له طاقات نبيله، ولكنه ليس نبيلا بالفطرة.quot; فيحتاج الإنسان للتدريب، والدعم، والارشاد، كما يحتاج لكي يحكم (بضمة الياء). فالديمقراطية وسيلة، وليست هدف، والنقاش لحكومة ديمقراطية لأنها ستكون تحت سيطرة الشعب لتقي من اضطهاده، فيجب أن تكون هذه الديمقراطية فعالة، وإلا ستنتهي. والمشاركة كالأمومة، ولكنها في نفس الوقت فكرة فضفاضة. فتدخل المواطن في قرارات الحكومة كل يوم، باستخدام استطلاعات الرأي، ليست وسيلة لتحقيق حكومة فاعلة. كما تعقدت الية الحكم مع التطورات الجديدة، فالعولمة ساعدت أن تصعب فعالية الحكم، لتضعف الحكومة قوى العولمة التي تملك القوة الاقتصادية. فمن المفروض في النظام الديمقراطي أن تعمل الحكومة لخدمة الشعب، لذلك من واجب المواطن الطاعة، التي يجب أن تكتسبها الحكومة بكفاءة أداءها المتميز. ويعرض الكاتب مثل لحكومة فاشلة في بريطانيا، ومثل لحكومة أخرى فاعلة في كوريا الجنوبية. فقد حقق حزب العمال البريطاني نجاح ساحق في انتخابات عام 1997، ليحصل على 418 مقعدا في البرلمان من 659 مقعدا. ومع أن حكومة بلير كانت بارزه اعلاميا، ولكن كانت النتيجة، فشل معظم برامجها. وحينما فشل بلير وحكم براون بعده، لم يحقق أيضا المساواة التي نادى بها، بل اصبحت حكومة العمال استمرارية فعلية لحكومة مرجريت تشر، لتفشل في تحقيق العدالة المجتمعية. كما لم يتفهم براون التنمية الاقتصادية المزيفة، التي نشطت بحرارة فقاعة صناعة الخدمات المالية، وانفجرت، لترتفع نسبة الفقر بين أطفال بريطانيا من 15% في عام 1975 إلى 31% في عام 2007.
ويعرض الكاتب تجربة كوريا الجنوبية فيقول: quot;التجربة الكورية قادتها الدولة بآلية السياسات الاجتماعية، التي اخترعها بسمارك في المانيا عام 1880، والتي كانت آلية لانضباط، وبناء الدولة، بالانظمة، والقوانين، والسيطرة الاجتماعية، والكفاءة، والشرعية، والطاعة. لتكون مكتسباتها بارزة، فحولت الفقر لازدهار، والديكتاتورية إلى ديمقراطية، ونشرت بين المواطنين شبكة حماية اجتماعية واسعة، كما لم تنسى أي قطاع في المجتمع، يستفيد من التنمية الاقتصادية. فحتى عام 1948 كانت هناك في كوريا الجنوبية حكومة عسكرية امريكية، لتبدأ التنمية الاقتصادية مع حكومات اتوقراطية متسلطة، جمعت بين استخدام القوة، للمحافظة على السلطة، وقيادات حكومية فعالة، ذات كفاءة عالية.
فقد كان رئيسها الأول بارك جونج، تكنوقراط عسكري، الذي وصل للسلطة، ليكتشف بأن الفوضى المجتمعية اكيدة، لو إنه ترك المنظمات الغير حكومية تتصرف كما تشاء. لذلك قرر إبعاد الضعفاء الغير مفيدين عن عملية التنمية الجديدة، كالاتحادات العمالية، بينما احترم من قاومه، واستفاد منهم. فمع أن المجتمع التجاري عاني من الجشعين، الذين أثروا من فوضى النظام السابق، والذين كان بارك يكرههم، بل فكر ادخالهم للسجن. ولكنه استخدم حكمته، ليدخل في تحالف غير مقدس مع التجار الكبار، وقبل برأسمالية احتكار ملئيه بالفساد، ولكنها كانت موجه من الحكومة، مع أنه لم يكن راضي عنها. كما شمل تحالفه quot;الشيطانquot;، فبدل تأميم القطاع التطوعي، ومحاربة منظمات المدنية الغير حكومية، ذات الامتداد الشعبي الواسع، تعاون معهم، وتركهم يعملون، بشرط أن يقوموا بتوزيع الخدمات التي لا تملك الحكومة المال أو الادارة لتوزيعها على المواطنين. فمع أن نظام الخدمات الاجتماعية طورته الرئاسة، ولكن تم تنفيذها وإدارتها من خلال تحالف موسع بين الدولة، والتجار، والمنظمات التطوعية المدنية.
وحينما نراقب عمل التحالفات التي حققها الرئيس بارك، نجد نوع غريب من دولة قوية، التي تضع الخطط، وتعمل على تنفيذها بفعالية، من خلال توجيه شركائها في التحالف للعمل المخلص والمتقن والجاد، وفي نفس الوقت تعمل معهم. وما نراه ليس دولة تقوم بالعمل، بل دولة تتعاون مع الاخرين، لكي تنفذ برامجها بفعالية متقنة وبكفاءة، مع نوع من المشاركة، بتبادل المسئوليات، والاقتراحات، والنقد للمصلحة المجتمعية. فجميع حكام كوريا الجنوبية، وخاصة الرئيس بارك، تعاملوا مع الجهاز الحكومي بنفس الطريقة، فاستلموا القيادة، واستأجروا الافراد الذي وثقوا فيهم، وطهروا انفسهم من لا يروقهم، ورقوا درجة من وثقوا به، وتجسسوا على من شكوا فيه. ولكن لتحديد من هو المسئول، توجهوا للإطراء، فجذبوا المسئولين لمدار السلطة، واستمعوا لهم، واستشاروهم، وعاملوهم بكرامة وأهمية.
كما خلقوا مؤسسات، لمشاركتهم في شكل لجان استشارية، فأعطوا المسئولية للمستشارين والخبراء، الذين لم يرعوهم، ولكن كان لهم تأثير كبير على الوكالات الاستشارية. وقد برزت في هذه التجربة مهارات التعاون، فحتى الدول الدكتاتورية لا تستطيع أن تشكل الاحداث في البلاد، إذا اعتمدت فقط على قوة الدولة. فمن المستحيل لأية دولة أن تفرض على مجتمعاتها الكفاءة بالقوة، فحتى دولة كوريا الجنوبية والتي كانت خلال بناء حداثتها مركزية، وقوية، وهرمية، ولا ترحم، ولكنها كانت في الحكم تحت رحمة الاخرين، الذين اعتمدت عليهم لتفرض برنامجها، وفعلا كانت لديها قوة الإكراه، وإمكانية إستخدامه، ولكن كانت هذه الوسائل والاستراتيجيات، فقط، لحماية نفسها. فدفع الاخرين بالقوة للعمل بكفاءة، بمساعدة الإكراه، لم تستخدمها أية دولة اخرى، وفقط تفهمتها قيادات كوريا الجنوبية، وحكموا على اساسه، وعملوا لكي يكونوا اقوياء، ولديهم القدرة لكي يكونوا مؤثرين. فقد تصور البعض تقليديا بأن الدولة الكورية قوية، ولكن تناسوا حكمة التوازن بين القوة، وضبط النفس، وهذه الصفة المميزة والمهمة في الاستبداد الكوري.
فقد كان هناك استخدام الشدة، ولكن بتوجيه وعقلانية، وكان هناك قمع مع روية واضحة، ووحشية مع تعبئة جماهيرية. فقد استخدمت الحكومة سلطتها لكي تستطيع أن تحكم، ولكن حكمت بمساعدة القوة، مع ضبط النفس. فبرزت هوية هذه الدولة ليس من خلال القوة، بل من خلال القدرة على استخدام القوة بعقلانية، وحكمة، لتستطيع أن تجعل اشياء عجيبة تحدث وتتحقق، في المجتمع الكوري. كما اعتمدت الحكومة، في استخدامها القوة، على اجهزة الدولة التي تحت يدها، بينما اعتمدت في ممارسة إدارة الحكم على اللاعبين من خارج الدولة، وللمحافظة على القوة فرضوا الخنوع، بينما طالبوا في الحكم الامتثال. فقد بينت الدولة كفاءتها من خلال القدرة على تعبئة المجتمع، فعبئت موظفيها وخبراءها وجماهيرها للعمل للتنمية المستدامة. كما استخدمت مهنية الرعاية الاجتماعية لتعبئ التجار والعمال، واستفادت من المتطوعين الاجانب على المستوى الوطني، للتعبئة في ادارة الخدمات الاجتماعية. ولنتذكر بأن التعبئة الإستراتيجية لها عواقبها، فالذين يتم تعبئتهم يعيشون ويزدهرون، وقد فضلت النظم السلطوية سحقهم في المجتمع، ولكن بالعكس في جنوب كوريا، تم بناء المجتمع من خلالهم. فتمكنوا التعبئة الجماهيرية على أن تعطى الفرصة للآخرين، كالمسئولين والخبراء، للتأثير لتحصين مشروع الحداثة، ولكونهم ليسوا بسياسيين بل رجال العلم، فجلبوا اخلاقيات التطور بالشراكة مع رؤسائهم. فقد عبئوا الفلاحين والعمال وعائلاتهم في ثورة ثقافية لمشروع تنموي، ولذلك أعطتهم الحكومة صوتا، ولا تستطيع الحكومة التي اعطتهم هذا الصوت ان تتجاهل اصواتهم، كما دفعوا بالتجار والمنظمات التطوعية كشريكة في الحكم. وقد استطاع قادة الحكام المتسلطين، باستراتيجيتهم التعبوية، ليس فقط تحقيق التنمية الاقتصادية، بل ايضا بناء مجتمع غني بالمؤسسات.
وقد كانت معضلة الاتحاد السوفيتي حينما تفتت لروسيا ودول أوربا الشرقية، تدمير المؤسسات المدنية، فحينما انتهي النظام السابق كان عليهم البدء من الصفر لبناء مؤسسات مدنية، تدعم النظام الجديد وحكوماته. بينما في كوريا الجنوبية انتقلت دكتاتورية السلطة وبدون ثورة مضادة، حيث حافظت المؤسسات المدنية النشطة على دورها في بناء كوريا النهضة، كما ثبتت الديمقراطية جذورها بالية تدريجية، حتى صلبت عودها خلال عقد من الزمن. لقد نمت كوريا اقتصاديا بسبب أن الدولة وفرت قيادة فعالة ذات كفاءة عالية، ودعت تلك القيادات أن تعمل من خلال شبكات من المؤسسات المدنية الفاعلة، وكان من السهل نسبيا الانتقال من النظام السلطوي إلى حكم ديمقراطي، لأن المؤسسات المدنية التي تحتاجها الديمقراطية كانت فاعلة من قبل، ولديها خبرة العمل. فنجاح أية حكومة تعتمد على كيفية استخدام قوتها بحكمة، ووضوح أهدافها، فقد كانت الهدف الكوري جليا، حينما أعلن الجنرال بارك في عام 1963، بعد سنتين من الانقلاب، وقبل الانتخابات الرئاسية: quot;أريد أن أكد، وأعيد فأكد، بأن السبب الرئيسي للثورة العسكرية في 16 مايو هي الثورة الصناعية في كوريا. ولأن الهدف الأولي للثورة هو تحقيق نهضة وطنية، لذلك توخت الثورة اصلاحات سياسية واجتماعية وثقافية، مع أن هدفي الرئيسي هي الثورة الاقتصادية.quot;وقد نجح الجنرال بارك من تحويل كوريا الجنوبية من دولة أفقر من بنجلادش في عام 1960 إلى دولة تنافس صناعتها الغرب اليوم. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل ستستفيد منطقة الشرق الأوسط من تجربة كوريا الجنوبية لكي تحقق تنميتها الاجتماعية؟ ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان