إعتادت أن تستيقظ مبكرا، عقب صلاة الفجر، تعد وجبة ساخنة من الفول والبيض المسلوق بالثمن البلدي، والبليلة وهي قمح مخلوط بالحليب، والقشطة بالعسل الأبيض، والفطير المشلتت، إنه اليوم الاول من العام الدراسي في خريف 1975 كنت في الصف الثاني الإبتدائي، كان العام الثاني لي في المدرسة، تؤمن أمي أن هذه الوجبة هي الاساس للأستيعاب والتفوق الدراسي، ما أن تضع يدها على رأسي لتوقظني حتى اقفز زي quot;فرقع لوزquot;، وكأنها أزاحت عني كابوسا، أقفز على السرير فرحا، إنها العودة إلى المدرسة.

كانت أمي تحرص على أن أتناول الأفطار أولا بدعوى أنني الرجل، ثم تلتحق بي بعد ذلك، أختى الصغيرة أمل، نذهب وأختي إلى المدرسة القريبة من البيت، كنت أحب كل أساتذتي لا سيما مدرستي الجميلة نورا، وانتظر حصة الرياضة للعب كرة القدم، لم يكن ذلك يشغل أمي عن الاعتناء بوالدي الذي كان يفضل تناول الفول بالزيت والليمون قبل التوجه إلى عمله مع كوب من الشاي الأحمر.

هذا المشهد من أسرة من قلب الطبقة المتوسطة في مصر السبعينات، أمي كانت تؤمن أن دورها في الحياة أن ترى أولادها متفوقين، وتعمل كل ما في وسعها لإسعادهم، وكان أبي رحمه الله محبا للعلم، ويردد دائما أن العلم يرفع بيوتا لا عماد لها، والجهل يخفض بيوت العز والكرم، كانت أمي تدير شؤون البيت، وكان جدي رحمه شيخا جليلا وخطيبا مفوها وتاجرا ميسور الحال، يبعث لوالدي وعمي كل متطلبات البيت، كان أبي يتابع دروسنا، ويأتي لزيارتنا في المدرسة، وأمي تدبر أمور البيت بسعادة بالغة، وترى أن ما يسعدها في هذه الحياة أن نتفوق علميا وننجح في حياتنا عمليا، تهتم بصحتنا، وتصنع كل ما هو صحي ومفيد، أكلها الشهي كان مصدر إعجاب الأسرة، كانت تصنع لنا مربى التين، والفطائر والبسكوت والكعك في العيد

الصغير بكميات تكفي لأشهر، وتهدي الجيران من لحم العيد، ومن الأكلات الشعبية التي تجيد طهوها، كانت حريصة على نظافة المنزل، وكي الملابس، وتحضير الطعام، وبعد يوم طويل من العمل، تجلس على الأريكة تأخذ قسطا من الراحة.

وفي أيام الامتحانات، تعلن أمي حالة الطوارىء في المنزل، توفر لنا جوا من الهدوء، وحين تظهر نتائج الامتحان، تجلس على أعصابها تنتظر البشرى، وحين تأتي البشرى، تحتضنني وتقول لنا بصوت منخفض والدموع في عينيها quot;مبروك يا حبيبيquot;، وكأنها خوفا من الحسد تخشى أن يسمعها أحد، مضت السنون وتخرجنا في الجامعة، أنا والأخوة الأربعة، عمل كل واحد في مجاله، ولدان وثلاث بنات، عملت في الصحافة التليفزيونية، وتعمل أختي أستاذة للأدب العربي، والثانية في محكمة الأسرة، والثالثة فضلت البقاء في المنزل، والأخ الاصغر يعمل بشركة بترول، تصفنا أمي بأننا نور عينيها، وثمرة كفاحها، وهي بالنسبة لنا مصباح يضيء الطريق، اقتضت الظروف أن يبعد بعضنا عنها بحثا وراء لقمة العيش خارج مصر، ابتعدنا عنها بعدا مكانيا، وبقيت في وجداننا وأرواحنا، هذه هي الأم المثالية، وكذا كل أم تؤدي رسالة خالدة في الحياة، وبات اختيار الأم المثالية أحد مظاهر الاحتفال بعيد الأم في مصر، نتطلع إلى معرفة قصة كفاح هذه الأم التي جعلتها الأم المثالية، رأينا حجم التضحيات التي تقدمها، منهن من تُوفي زوجها وتركها وأولادها، ولا تملك سوى معاش بسيط، ومع ذلك ضحت بسعادتها وكرست حياتها لأولادها، ونجحت في تربيتهم وتعليمهم، وخرج من بينهم أستاذ الجامعة، والطبيب، والمهندس، نقف مبهورين من مثابرة ومعاناة هذه السيدة، وهي تقوم بأسمى وظيفة لها في الحياة، الأمومة بكل ما تحمله من معنى.

إن من يتابع قصص وحكايات الأمهات المصريات يدرك مدى البساطة في تعامل هؤلاء الأمهات مع حياة قاسية، هن لا يسعين إلى المثالية، بل يدركن أن دورهن في الحياة لا يقف عند رحيل الأب، أو فقدان السند في هذه الحياة، بل بتوصيل أولادهن إلى بر الأمان، هن يراقبن أنفسهن، قبل مراقبة الناس، ويطلعن بدورهن على أكمل وجه، قبل أن يشمت فيهن

الحاسدون، يحتملن مالا يحتمله أحد، يتحملن فقدان الزوج، وشظف العيش، وقسوة الحياة، وفظاظة الأبناء أحيانا، بكل رضا،يصبرن ويلجأن إلى الله،ويعرفن أنه المستعان، انها الأم المصرية، أنتن جميعا أيها الأمهات مصدر فخر لمصر كلها. كل عام وأنت طيبة يا أمي.

إعلامي مصري