لم يعد للعقل والمنطق من مندوحةٍ للكشف عن سر الطائرة الماليزية المفقودة بعد مضي أيام طوال الآن على اختفائها المفاجئ في الأجواء، وبعد كل هذه الجهود التي بذلتها الحكومة الماليزية ndash; أو تلك المشتركة مع دول أخرى - في سبيل الخروج بتفسير منطقي وعقلاني للحقيقة، حتى أنها لجأت مؤخراً لما وراء العقل والمنطق عندما استعانت بأعمال السحر التي قام بها بعض المشعوذين الماليزيين في مطار كوالالمبور أمام كاميرات وتغطية الإعلام!
الكثير من التأويلات حول فقدان الطائرة المثير طُرحت من جانب خبراء طيران وعسكريين وغيرهم، ولكنها حتماً لم تفضي حتى اللحظة لحقيقة مادية نستطيع معها أن نغلق باب التكهنات، وهو أيضاً ما جعل الباب مفتوحاً على مصراعيه لتأويلات أخرى على وزن تأويل المتصوف السوداني المثير للجدل quot;بلة الغائبquot;، والذي تداولته مواقع التواصل الاجتماعي، حيث ذكر فيه بأن quot;الطائرة موجودة ببلاد الجن الأحمرquot;! وأن quot;ركابها جميعهم أحياء، وأنه في حال ما طُلبت منه المساعدة فباستطاعته العثور على الطائرة وركابهاquot;!
وأنا اليوم اسمحوا لي بدوري أن أدلي بدلوي في غيابة مجهول الطائرة، وتفسيري قطعاً لن يكون في مستوى بلهِ quot;بلةquot; أو معرفة الخبير. وأنا فيه أيضاً لن أسلم من تصنيف quot;المهووس بنظرية المؤامرةquot;! فطوبى للمهووسين من قبلي ومن بعدي!
تفسيري ndash; على طول - أنها من إحدى المحاولات المستمرة ndash; ولن تكون الأخيرة! - لتركيع ماليزيا وبالتحديد اقتصادها أمام رغبات الزعيم الصهيو-أمريكي، وما سيناريو quot;الطائرة المفقودةquot; إلا بداية أخرى لمحاولة اغتيال الاقتصاد الماليزي، سبقتها بدايات متعددة إنطلقت بعيد تولي مهاتير محمد رئاسة الحكومة الماليزية ndash; وكأول رئيسٍ لها من عامة الشعب - في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، وبالتحديد عندما أطلق في بداية تسعينيات القرن المنصرم رؤية ماليزيا الاقتصادية حتى عام 2020! وهي الرؤية التي مضى مهاتير في تنفيذها عبر أولاً، بناء نظام سياسي واقتصادي قوي ليس فيه من تطرف علمانية أتاتورك أو تغول رأسمالية أمريكا (أو بحسب وصف مهاتير، quot;كنّا إذا أردنا الصلاة توجهنا إلى مكة، وإذا أردنا العلم توجهنا إلى اليابان!quot;)، وثانياً، مجتمع يغمره التعايش بين أطيافه المتعددة، وثالثاً والأهم الاستثمار الهائل في العلم والتعليم والتصنيع والتصدير.
وعودة إلى لب الموضوع حتى لا يصبح مقالي ملخصاً لكتاب quot;مذكرات مهاتير محمدquot;. وقد يسأل سائل هنا quot;ولماذا استهداف ماليزيا تحديداًquot;؟، وجوابي هو في إعادة صياغة السؤال، quot;ومن غيرها في منطقة الآسيان تحديداًquot;؟!
دولة مسلمة كماليزيا تُعد من أكبر الدول المصدرة للنفط في العالم من خارج منظمة أوبك، ويوجد بها أيضاً معدلات هائلة من احتياطات النفط، أضف إلى ذلك الأهم، وهي النهضة الاقتصادية الكبيرة التي شهدتها ماليزيا في غضون سنوات معدودة بفكرٍ وعزمٍ وعمل دؤوب وطني بحت. أمثل هذا بعدها يمرُّ مرور الكرام أمام اللئام؟!
حاولت أمريكا ndash; وبمعيتها الشيطان الأصغر إسرائيل ndash; وبشتى الطرق كبح جماح التقدم الماليزي، وكان هذا جلياً عندما عصفت الأزمة المالية الأسيوية خلال عامي 1997 ndash; 1998، بالوضع الاقتصادي الماليزي ما أدى إلى تراجع العملة الماليزية quot;الرنجيتquot; خلال شهرين من بدء الأزمة إلى 15% في أسواق المال! وقد اتضح بعدها بأن الرأس المدبر لهذه الأزمة التي استهدفت تحديداً شلّ اقتصاد ماليزيا، هو رجل المال والأعمال البليونير الأمريكي اليهودي/ جورج سوروس، المعروف كمنفذٍ لعددٍ من مهمات أمريكا الاقتصادية غير النظيفة.
وقد سارعت أمريكا فور حدوث الأزمة المالية في آسيا، وبالتحديد عبر quot;بنك أمريكا الدوليquot; أو ما يُعرف بصندوق النقد الدولي!، إلى تقديم حزمة مبادرات اقتصادية إلى الحكومة الماليزية برئاسة مهاتير حينها، والتي رفضها وحكومته بسبب أولاً، أن حكومة ماليزيا لم تطلب أساساً تدخل الصندوق، وثانياً والأهم، أنّ مثل هذه المبادرات كانت ستجعل من اقتصاد ماليزيا يخضع لأمر الصندوق الأسود! ولا بد من الإشارة هنا إلى موقف شاذ داخل الحكومة الماليزية سجّله وزير المالية الماليزي حينها، quot;أنور إبراهيمquot;، حينما دعم بشدة تدخل quot;صندوق النقد الدوليquot; في أزمة ماليزيا المالية عبر قبول مبادرات الصندوق، وهو الموقف الذي دفع على إثره مهاتير إلى عزل أنور من منصبه. وقد استغل نائب الرئيس الأمريكي في وقتها، آل غور، حضوره كمتحدثٍ في مؤتمر دول الآسيان الاقتصادي الذي عُقد في ماليزيا لبحث تداعيات الأزمة المالية الأسيوية، حيث ندد خلال خطبة ألقاها أمام الحضور -وكان منهم مهاتير - بقرار الحكومة الماليزية في عزل أنور من منصبه! ما دفع يومها الحكومة الماليزية إلى الطلب من آل غور بمغادرة ماليزيا فوراً.
لم تكُف ndash; ولن! - محاولات العبث الأمريكي في داخل ماليزيا، بل وأنها زادت حدةً ووضوحاً في السنوات الأخيرة، خاصة إبان إندلاع ما يسمى بالربيع العربي، لتأتي هذه المرة عبر بوابتي، quot;الديموقراطية وحقوق الإنسانquot;، فقد قامت أمريكا حينها بدعم حركات المعارضة الماليزية (وخاصة تلك التي يترأسها المذكور سابقاً أنور إبراهيم، وتُدعى quot;حركة الإصلاحquot;!) معنوياً ومادياً بغية استغلال موجة quot;الثورات العربيةquot;، لنقلها إلى ماليزيا. كما وأنها ساهمت أيضاً في تاسيس مركزي حقوق الإنسان quot;Bersihquot; و quot;Merdekaquot;، المشبوهين في ماليزيا بقصد محاربتها من الداخل!، إلا أن جميع هذه المحاولات باءت بالفشل حتى الآن!
كما لا يُعقل إفراد أمثلة للشر الأمريكي الذي أُريد بماليزيا دون التطرق لشر إسرائيل هناك أيضاً! ويكفي للتدليل عليه هنا ما تداولته تقارير صحافية ماليزية عدة قبل سنوات قليلة مضت حول فضيحة ترسية مناقصة عمليات تحديث الأنظمة التقنية لأجهزة الشرطة الماليزية، على شركة quot;آسيا سوفت ndash; Asiasoftquot;، والتي يمتلكها ويديرها مواطنان إسرائيليان وهما، quot; إيدو شيشتر و إسحاق دايفيد ناكارquot;، وناكار هذا ممن منحتهم إسرائيل جائزة quot;الدفاع عن إسرائيلquot; - وهو أرفع تكريم يمنحه الكيان الصهيوني بشكل سنوي لمن قدّم خدمات جليلة لإسرائيل - نظير تطويره لأنظمة عالية التقنية في مجالي التجسس والاستخبارات لصالح الموساد!
أُنهي مقالي هذا في وقت متأخر من الليل، وأنا أتوجه بحديثي لكل من لا يرى بأن حلّ لغز فقدان الطائرة الماليزية بسيط ولا يعدو في كونه سوى استهداف صهيو-أمريكي (وهم أهل الابتكار في هذا المجال، وفي سيناريو أحداث الحادي عشر من سبتمبر، المُعتبر!) لضرب اقتصاد دولة مسلمة متقدمة كماليزيا تجرأت مراراً في رفض الرضوخ لمعيار quot;البزنس الأمريكيquot; أو ما يُسمى بالعولمة. حسناً.. ائتوني بحقيقة منطقية واحدة تفسر اختفاء الطائرة الماليزية المثير حتى اللحظة، والتي ستجعلني أندم أشدّ الندم على مثل هذا الطرح ndash; ولا يُحسبُ التصريح الصحافي الأخير لرئيس وزراء ماليزيا حول سقوط الطائرة في المحيط الهندي وموت جميع ركابها، من ضمن الحقيقة! - أو ماذا وإلا ختاماً.. quot;تصبحون على خيرquot;.
ndash; كاتب بحريني