لو كنت من عُشّاق نظريّة المؤامرة لكنت سارعت إلى اتّهام بيل غيتس، شركة مايكروسوفت، نظام الويندوز ومتصفّح الاكسبلورر، على حدة ومجتمعين، بإفشال التلاميذ العرب من المحيط إلى الخليج.
لا شكّ أنّ الثورة التكنولوجية هي نعمة، فما بالكم بثورة الاتّصالات والمعلومات التي وصلت العالم ببعضه البعض بشبكة الإنترنت وأتاحت للفرد الوصول إلى مصادر المعارف البشرية بشتّى مجالاتها عبر شاشة حاسوبه، أنّى حلّ وأنّى ارتحل.

منذ زمن طويل أفكّر في هذه المسألة ولكنّي كنت أؤجّل الكتابة عنها لانشغالي باهتمامات أخرى. غير أنّي ألاحظ أنّ شيئًا لم يتغيّر والكارثة المتعلّقة بأنظمة بيل غيتس الحاسوبية ما زالت قائمة ولها مفعولات سلبية على الأجيال العربية. لا أتحدّث هنا عن نظام الويندوز بصورة عامّة، وإنّما أودّ التّركيز على ما له علاقة باللغة العربيّة على وجه التحديد.

ومناسبة الحديث في هذه المسألة الآن هي نتائج اختبارات ldquo;پيزاrdquo; (PISA) الدوليّة التي تشارك فيها دول شتّى، أكثر من ستين دولة، وبلغات قومية مختلفة، بما فيها عدّة دول عربية، مثل تونس، الأردن، قطر والإمارات العربية المتحدة. كما وتشارك فيها إسرائيل أيضًا بلغتين هما العبرية والعربية. تفحص هذه الاختبارات مهارات القراءة والكتابة لدى التلاميذ بسنّ 15 سنة وبمجالات معرفية مثل الرياضيات، العلوم ولغة الأم. كما أضيف في الآونة الأخيرة مجال جديد لهذه الاختبارات هو مجال القراءة الرقميّة المحوسبة.

سأتطرّق هنا إلى ما أظهرته النتائج في إسرائيل بالذّات، وذلك لأنّ هذه النتائج تتيح إجراء مقارنة بين اللغة العربية ولغة أخرى هي العبرية في هذا السياق. غير أنّ مقارنة العربية بالعبرية هنا يمكن أن تنسحب على مقارنتها بسائر اللغات الأخرى المشاركة في الاختبارات.

يُظهر التقرير الذي نشرته الهيئة الإسرائيلية القطرية المسؤولة عن هذه الاختبارات اتّساعًا في الفروق بين نتائج متكلّمي العبرية مقارنة بنتائج متكلّمي العربية. إذ يشير التقرير، الذي يستند إلى تقرير ldquo;پيزاrdquo; الدّولي، إلى وجود فارق يصل إلى 100 نقطة بين متكلّمي العبريّة ومتكلّمي العربيّة في جميع مجالات المعرفة. غير أنّ هذا الفارق يزداد اتّساعًا وبصورة استثنائيّة في اختبار القراءة الرقميّة، إذ يصل الفارق فيه إلى 150 نقطة لصالح متكلّمي العبريّة.

بكلمات أخرى، لو قمنا بتدريج نتائج الامتحانات بحسب متكلّمي اللغتين مقارنة بسائر نتائج اللغات والدّول الأخرى المشاركة، لجاءت نتائج متكلّمي العبرية في المرتبة الـ 15 من بين 64 دولة، بينما جاءت نتائج متكلّمي العربية في المرتبة 56، أي في ذيل القائمة. وهناك في ذيل القائمة سنجد أيضًا سائر الدول العربية المشاركة في هذه الاختبارات.

ما هو السبب الذي يؤدّي إلى هذه الفوارق الشاسعة في القراءة الرقمية بلغة الأمّ؟ إنّ فوارق بهذا الحجم تستدعي تفسيرات مقنعة
جدير بالذّكر، إنّه وبالإضافة إلى التفسيرات العادية والتقليدية - والصحيحة في جزء منها - والتي تعزو هذه الفوارق إلى الخلفيّات الاقتصادية والاجتماعية للتلاميذ، فإنّ هنالك تفسيرات وأسبابًا لا ينتبه إليها أحد من القائمين على هذه المجالات. إنّ الأسباب الاقتصادية، أي الاستثمار المالي في التربية، لا تكفي لوحدها لتفسير هذه الفجوات. إذ أنّ التلاميذ العرب، في دول مثل قطر والإمارات الخليجية الغنية بكلّ المقاييس، لم يحصلوا على نتائج متقدّمة في اختبارات ldquo;پيزاrdquo; الدولية هذه، بل جاؤوا في ذيل القائمة أيضًا، على غرار سائر متكلّمي العربية، وعلى غرار متكلّمي العربية من التلاميذ العرب في إسرائيل.
إذن، هنالك تفسيرات أخرى لهذه النتائج المزرية. لقد قمت بفحص الاختبارات الأخيرة، وأستطيع أن أشير إلى بعض الأسباب لهذا التخلّف في التحصيل مقارنة بسائر اللغات. أودّ الإشارة أوّلاً إلى مشكلة جدّيّة في الاختبارات، وهي مشكلة تتعلّق بترجمتها إلى اللغة العربية. ليس فقط أنّ ثمّة أخطاء غير قليلة في الترجمة للعربية، بل وأكثر من ذلك فإنّ لغة الصياغة العربية هي لغة ركيكة ولا تتّسم بالسلاسة. بالإضافة إلى ذلك هنالك استخدام خاطئ لعلامات الترقيم، وهي العلامات التي تقوم بوظيفة تنظيم النصوص وتساعد على فهم المكتوب.

غير أنّ ما يزيد الطين بلّة، برأيي، هو تلك المأساة الإضافية المتعلّقة باستخدام حواسيب الـ پي. سي. وبنظام الـ ويندوز لشركة مايكروسوفت. يجب ألاّ يُستهان بهذا الموضوع، إذ أنّ له تأثيرًا كبيرًا على التّلاميذ في كلّ ما يتعلّق بالقراءة الرقميّة المحوسبة. ولعلّ استخدام هذا النّظام في الحواسيب باللغة العربية هو ما يُفسّر هذه الفجوة الكبرى بين متكلّمي العربية وسائر اللغات. إنّ الخطوط العربية المُثبتة في النّظام والتي تظهر على الشاشة وفي جميع مواقع الإنترنت هي خطوط أقلّ ما يقال عنها أنّها قبيحة وغير مريحة للعين القارئة. كما ينضاف إلى هذا القبح تداخل النّقاط والحركات واشتباكها بالحروف وتشويشها عندما يُراد تشكيل النصّ بضمّة أو فتحة أو تنوين وما إلى ذلك. هكذا يُضحي النصّ على الشاشة أشبه بخرابيش مُتعبة للعين القارئة، إن لم نقل إنّها تضطرّ القارئ إلى هدر الوقت لفكّ مغاليقها.

لا أدري من هم المسؤولون عن هذه الحال المزرية للغة العربية في الحواسيب وفي شبكة الإنترنت. يجب إطلاق صرخة باتّجاه بيل غيتس ونظام حواسيبه ومطالبته باستبدال هذه الخطوط القبيحة بخطوط سليمة، جميلة ومريحة للعين القارئة. يجب التّعامُل مع الخطوط الحاسوبية بوصفها وسيلة القراءة الآخذة في الاتّساع. لذلك، يجب أن تكون الخطوط من النّوع الذي ترتاح له العين، أكان مشكولاً أو بدون شكل، وبكافّة الأحجام.
لقد تخطّيت أنا بنفسي هذه المصيبة الحاسوبية العربية قبل سنوات بالتحوّل إلى نظام ماكنتوش الّذي تنعدم فيه هذه المشكلة. غير أنّ المسألة ليست شخصية، بل هي تخصّ الأجيال العربية بأسرها، وما تواجهه في حواسيبها من قبح في التعامل مع اللغة العربية.

لعلّ في هذه المشاكل الحاسوبية ما يفسّر هذه الفروق الشاسعة بين تحصيل التلاميذ العرب في الاختبارات الدولية مقارنة بسائر الشعوب وسائر اللغات.