كل من يتوخى الحقيقة يعرف أن العلمانيين ليسوا كفارا، بل هم اشد ايمانا من غير العلمانيين لأنهم يمارسون عباداتهم و يسمحون للاخرين ان يمارسوا عباداتهم، و لكنهم لا يقحمون الدين في السياسة، لمصحلة الدين و لمصلحة السياسة معا. انغيلا ميركل مستشارة المانيا مثلا هي عضوة في الحزب المسيحي الديمقراطي و تؤمن بقيم المسيحية، لكن في بيتها و في الكنيسة و ليس في حزبها و مكتبها، أما حين تمارس عملها في مكتبها فهي علمانية، هي تعرف أن الوطن الذي تقوده فيه مسيحيون، كاثوليك، بروتستانت، ارثودوكس... الخ، فيه يهود و مسلمون، بوذيون و هندوس، فيه غير مؤمنين أيضا.. كل هؤلاء هم مواطنون ألمان او مقيمون فيها و تعاملهم سواسية، و عندما تكون على مكتبها يشخص امامها الانسان على اعتبار أنه قيمة عامة تفوق المعتقدات و الاديان و الميول السياسية، بل حتى الكنيسة و القسس باتوا يتعاملون مع الناس على انهم بشر و لم يفرقوا بين المسيحي و غير المسيحي، فالمساعدات الغذائية و المعيشية التي تقدمها الكنائس للناس توزع عليهم دون اي اعتبار لاي شيء سوى وثيقة تثبت ان طالب المساعدة ذو دخل محدود.
لماذا هذه الـ ( و لكن ) إذن في صدر المقال ؟
انها تخص العلمانيين الذي يستحون من علمانيتهم و يخفونها. انها تخص علمانيي العراق الذين انهزموا اما الخطاب الديني و لم يعرفوا، او انهم لم يرغبوا ان يدافعوا عن فكرة العلمانية باعتبارها غير مناقضة للاديان.
هذا ان هذا المرجع الكبير الحائري يهاجم العلمانيين رغم حقيقة أنه لا يوجد حزب في العراق أو تجمع أو تحالف قد ثبت العلمانية بالاسم في برنامجه. راجعوا برامج كل الاحزاب العراقية لن تجدوا الكلمة و لكن ا لرجل ليس غافلا رغم ذلك.
في مؤتمر حضرته قبل سنتين نظمته منظمة التضامن مع اتباع الديانات و المذاهب في العراق ضمني لقاء مع قائد في تيار ديمقراطي quot;مدنيquot;، سألته: لماذا لا يتضمن برنامجكم الاشارة الى العلمانية صراحة، انا ارى انكم بهذا لن تجعلوا رجال الدين يرضون عنكم فيما ستخسرون الناس التي تتطلع الى موقف حازم و واضح.
كان جوابه صادما!
قال : كيف تريدنا ان نتبنى العلمانية و قد حضينا بمقابلة المرجع الكبير فيما رفض مقابلة سياسيين آخرين ؟! ثم اضاف: ثم الا تعرف أن ممثل سماحته قد شن هجوما على العلمانيين في خطبة ا لجمعة الماضية ؟!
و في الاسبوع التالي كرس هذا القيادي مقالا في الصحيفة التي تنظق باسم تياره غطى صفحة كاملة عن العلمانية و مغزى العلمانية و جذورها التاريخية تضمن لفا و دورانا قال فيه كل شيء لكي لا يقول في واقع الأمر أي شيء و دون ان يقول لنا : حسنا هل انتم علمانيون ام لا ؟ هل تثبتون ذلك في برنامجكم ام لا ؟ لكنه لم يقل ابدا ان تياره علماني او انه يتنى العلمانية، لانه بالضبط لا يريد ان يغضب رجال الدين.
لا توجد قطعا ديمقراطية في العالم دون ان تكون علمانية، خذوا امثلة اوربا من جهة، و من جهة اخرى خذوا مثالين على الطرف المقابل : اردوغان في تركيا و آلية الدستور في جمهورية ايران الاسلامية رغم الفوارق. الاول اغلق توتر و الفيس بوك و اليوتيوب و فرق المتظاهرين بالحديد و النار و الثاني يقضي دستوره بأن تمنح السلطة المطلقة لشخص غير منتخب يستطيع بها تعطيل سلطة رئيس الجمهورية المنتخب.
ان العلمانية غير عاجزة كمفهوم و قدمت امثلة لا يمكن تفنيدها على افضلياتها و لكن العلمانيين العراقيين هم العاجزون، انهم يخفون علمانيتهم و يخجلون منها و لا يقارعون اعداءهم الحجة بالحجة انما يسعون لارضائهم.
و ها نحن نرى النتائج : انك مهما حاولت ارضاءهم فلن يرضوا عنك و سوف يهاجموك و سوف يخرجون من جعبهم كل الفتاوى القديمة التي تبيح دمائكم، سواء ذكرتم العلمانية ام لم تذكروها فهم ليسوا عنكم بغافلين.
و لكنك ايها quot;الديمقراطيquot; العراقي خسرت كثيرا، لانك لكي ترضي رجل الدين الذي لن يرضى عنك في مطلق الاحوال لم تفكر بالاحتياطي الهائل من الناس المحبطين الذين يريدون اشارة صريحة تقول : نعم انني علماني اعمل على فصل الدين عن الدولة و احترم كل الاديان و اسمح بممارسة الطقوس الدينية لكل الطوائف.
انت سيدي quot;الديمقراطي quot; تذكرني بتلك المرأة التي تركت زوجها لكي تتزوج سيد علي و لكن لا سيد علي تزوجها و لا زوجها قبل ان تعود اليه فقال فيها العراقيون مثلهم الشهير إنها لا حظيت بزوجها و لا تزوجت سيد علي (لا حظت برجيلها و لا خذت سيد علي ) حسب اللهجة العراقية.
عودوا لناسكم و قولوا بشجاعة : نعم نحن علمانيون و ماذا في ذلك، العلمانيون مؤمنون و ايمانهم اكثر طهرا من ايمان المصالح و جمع الاموال لأنه شعيرة بين الله و عبده. عندها سوف ترون اي احتياطي ضخم مختف تحت الركام. فلقد مل الناس و يأسوا و ركنوا الى الانعزال بسبب طول انتظارهم للصوت الشجاع.