من خلال قراءة سريعة للحملة الدعاية الإنتخابية للإنتخابات العامة العراقية- التي ستجرى في نهاية هذا الشهر (أبريل)- وعبر مراقبة الشعارات المرفوعة مع صور المرشحين في بغداد والمحافظات العراقية الأخرى، نستخلص ان المجتمع العراقي يعيش أتعس مراحله التاريخية وأحلكها وأكثرها فوضوية وظلامية.

ان مؤشرات الـ (عشر سنوات الأخيرة بعد تغيير نظام صدام حسين ) تشير الى تشرذم هذا المجتمع وانقسامه على نفسه بشكل مثير للجدل، بالطبع في ظل غياب الإرادة الحقيقية لإعادة (لم الشمل)، فالمكونات السياسية نجحت الى حد بعيد في ابتكار واختراع وايجاد أرضية الإستقطابات العرقية والمذهبية والقبلية وتجذيرها في أعماق المجتمع والعقل الجمعي العراقي... وهذا يحدث بسبب غياب أبسط أسس (الدولة) وأقصد (الدولة المدنية العصرية القائمة على أساس المواطنة لاغير)، فالقائمون على إدارة شؤون العراق وأولياء الأمور لا يمتون إلى ثقافة بناء الدولة بصلة تُذكر، بل هم زعماء لإقطاعيات سياسية همها الأستئثار بالحكم والسلطة والمال والجاه، تتبعهم طبقة جديدة من المنتفعين والوصوليين هذه الطبقة التي غدت كل الأمور ومفاصلها وخصوصاً المالية بيدها وتتحكم كيفما تريد وتضرب بكل ما لا ترغب فيه عرض الحائط، وهذه الطبقة تتبعها طبقة أخرى أقل شأناً من الموظفين البيروقراطيين النفعيين وهم ينتشرون ويتكاثرون إنشطارياً كـ(الأميبا)، وهم حديثو النعمة وحديثو العهد بهذه الوظائف، أضف اليهم آخرين انتهازيين يتأقلمون ويتكيفون مع كل وضع. وهكذا يكتمل شكل الهرم (القمة ) التي تضم رؤوس الإقطاعيات السياسية (الوسط) الذي يضم الطبقة الجديدة و(قاعدة الهرم) التي تضم البيروقراطيين من الموظفين والذيول التي تنتقيهم الأحزاب انتقاءً كي يكونوا في موقع المسؤولية (مهما بلغت درجة جهلهم) كي يكوا حمـــاة الطبقة الجديدة ومن ثم حماة قمة الهرم.

هذا الأسلوب المخجل الذي تمارسه الأحزاب الحاكمة الموغلة والغارقة في (راديكاليتها) وبخاصة الأحزاب ذات الصبغة الدينية والمذهبية والقومية والتي لا تؤمن بشيء أسمه (الدولة) إلا مختزلة في نهجها أو بالأحرى في شخوص زعمائها وقادتها الذين أضاعوا البلاد وساهموا بفعالية لا مثيل لها في عملية تشظي المجتمع العراقي وإنقسامه على نفسه الى حد رفض كل مكون للآخر (سواء كانت المكونات عرقية أو دينية أو مذهبية)... والآن في خضم المستجدات الحالية في العراق وبخاصة في خضم (الحملة الإنتخابية الجنونية المحمومة الملوثة للسمع والبصر) فإن إنقساماً آخر بدأ يترسخ بعدما كان متراجعاً شيئاً ما ألا وهي (القبلية)، فها هو المجتمع العراقي ذو الجذور البدوية أصلاً يعود وبشغف وشوق إلى أصوله كي تترسخ ثقافة (القبيلة) من جديد... وتترسخ الطاعة العمياء لشيخ أو أمير القبيلة، الذي يبدو متفقاً مع أعلى الهرم الحاكم (مع كل الإقطاعيات السياسية) لإدارة اللعبة والضحك على الذقون... هكذا بدأت الإقطاعيات الإجتماعية تتناغم مع الإقطاعيات السياسية لبناء دولة الإقطاعيات المقيتة في العراق.

من الغريب أن تنتهج أحزاب الإسلام السياسي هذا النهج وفقهاؤها وزعماؤها ومنظروها دوماً ينادون بأن الولاء للإسلام بدل الولاء للقبيلة أو حتى للوطن، لكن هكذا تحتم السياسة، وهذه هي حيثيات العمل السياسي.

كما ان من الغريب أن تتجه القوميات بخاصة القوميتان الكبيرتان (العرب والكرد) إلى تبني نهج إحياء القبيلة والعشيرة، فلا أدري أين ذهبت شعاراتهم الوحدوية؟ فالعروبيون الآن بدؤوا بالضرب على وتر القبيلة والاسلام (القائمة العربية رافعة لشعار: إذا ذلت العرب ذل الإسلام) وصاحب هذا الشعار طبعاً يدعي العلمانية، في حين انه ينتخي أبناء العشائر لمنحه وقائمته الأصوات..أليست تناقضات مخجلة مدعاة للسخرية.

الجانب الكردي هو الآخر الذي عُرِفَ بالشعار القومي والحديث عن إقامة الدولة هو الآخر يستعين بالقبيلة والعشيرة ووجهائها وأبنائهم طبعاً وكذلك بالعوائل المعروفة للحصول على الأصوات، فالأحزاب الكردية الأصولية(الراديكالية) بدأت ومنذ انتخابات برلمان كردستان تغازل القبيلة والعشيرة للوقوف بوجه المد المقابل الكامن في المعارضة بشقيها العلماني (حركة التغيير) والإسلاموي (الاتحاد الاسلامي الكردستاني والجماعة الاسلامية والحركة الاسلامية)...أليس هذا النهج مسبباً للإستقطابات القبلية العشائرية الضيقة والتي تساهم في شرذمة المجتمع الكردي... فكيف الحديث عن بناء دولة؟!

متوهم جداً من يتحدث عن شيء أسمه (الوحدة الوطنية في العراق) فالطرح الوحدوي يحتمل أمرين لا ثالث لهما (إما انه ضحك على الذقون، أو أنه العيش خارج الزمكان العراقي ).

لا يخفى أبداً ولا يقدر أحد مثلي ولا غيري أن ينكر مديات الذكاء عند القيادات السياسية العراقية بشتى توجهاتها (دينية ومذهبية وقومية )، وذلك ظاهر من الخطاب الإعلامي والسياسي لهذه الأحزاب التي دأبت على مخاطبة (العقل الجمعي العراقي)، وليس مخاطبة العقل الفردي أو الفرد العراقي، كون هذه الأحزاب وبخاصة العقائدية الدينية والقومية منها تدرك جيداً ان (العقل الجمعي عاطفي شديد التأثر بالشعارات الكاذبة) وتدرك أن الفرد لا يتأثر الا إذا كان مندمجاً مع الجمهور ومنصهراً فيه... ولذلك نرى ان الشعارات الانتخابية كبيرة فضفاضة بل حتى سمجة وبعضها سخيفة، كلها تتحدث عن الوحدة والتلاحم والتآخي والتسامح (أصحاب الشعارات مخادعون)... مع غياب الشعارات التي تتحدث عن (التأمين الصحي للفرد) و (ترفيه الشباب ) و (قوانين العمل والضمان الإجتماعي) و (الحرية الفردية) (حقوق المرأة ) و (حقوق الطفل) والخ من الشعارات التي تهم الإنسان الفرد.

* ترسخت المذهبية والطائفية

* ترسخت القومية

* ترسخت القبلية والعشائرية

وهكذا سينجح العراقيون من بناء دولتهم المدنية العصرية...!

*رئيس تحرير صحيفة الأهالي الليبرالية العراقية/بغداد