(سعيد قزاز: يا عبد الله الخليل، سلم اولادك للحكومة او احرقها!....)
(و الله لو كانوا تحت قدمي هذه ما رفعتها!)
حدث هذا في خمسينات القرن الماضي و وسم البلدة بميسمه.
عبد الله الخليل الرحبي قاوم عمُه الإحتلالَ حين دخل الانكليز الفاتحون مطلع القرن و وصلوا مشارف البلدة. العائلة التي اطاحت بجدول الطبقات كما آل الثابت و آل الصافي، قرر أولادها منذ اواسط الثلاثينات أن يكون شيوعيين رغم انهم ملاك اراض واسعة، فعادتها كل الانظمة و تخلى عنها الجميع، حتى من ضحت لاجلهم.
ينشر صورَه في الاحتفال مورداً مبتسما، الاعلام حمراء، الدماء حمراء، سنعمل كل ما بوسعنا: quot;مقعدان على الاقلquot;... السلّم الطبقي، أم سلم الرواتب؟ ماذا تقصد، هل تسخر؟
مقاعد مخصصة للجالسين، اجلس هنا بجانبي!
كان عمار النابت قد جلس (تعود به الذاكرة لنصف قرنٍ و نيف) و لكن على عتبة الدار، وتحلق الصبيان حوله. أتقن الرواية عن ابيه و أشاع فيها شدّاً، فرض على المتحلقين حوله صمتا مُستفَزاً. والده امتلك بستانا كبيرا. حينذاك كان (الراشن)، تلك الكلمة المأخوذة عن الانكليزية والتي تعني تقنين المياه وتوزيعها بالدور، تقتضي أحيانا أن يقضي المالكُ الليلَ بأكمله في بستانه التي ازدحمت فيها أشجار البرتقال المظلل بالنخيل السامق، ما ترك بالكاد قِطَعا مرئيةً من السماء، ما ترك بالكاد بقعةً من ضوءِ القمر ملقاة على الارض. سادتِ الدكنةُ و تركت التماعاتٍ هنا و هناك، فأشاعت جواً من الرهبة أوهن اكثر القلوب ثباتاً و جعل الخيال منطلقا من عنانه، فنسج الأب ما اعتقد أنه رآه ثم روى لأولاده ما سردوه للاخرين، و بالخليط الناشيء مع ما يسمعونه من الجدات، حين يتحلقون حول المواقد في ليالي الشتاء، اكتمل النسيج المحكم للقص المتوارث، و باتت السياسة جزءا من هذا النسيج بلاعقلانيتها و نسج خيالها، فاندرجت هي الاخرى في حكايات الجن..

العفريت جسّد نفسه خارج المرويات... رائحة دخان و لهب، نخيل أحترق و بقيت شاخصةً قاماتٌ سود، الرصاص يخترق جذوع النخيل، يخترق البرتقال الريان، يخترق صفحات الفيس بوك، يخترق النص.... صوت استغاثات.... أم جمانة، النت يروح و يجي.... ندى : اني كلش خايفة... الله يساعدكم و يحفظكم يارب!.... هسه، خو ما كو بعد قصف نداوي؟؟... أم جمانة د يبطل و يرجع... يبطل و يرجع...هسه دا نسمع صوت رمي...
تقصف الطائرات الالمانية قرية الغورنيكا في يوم ازدحام السوق بالباعة و الشراة، اكبر قدر من القتل، بيكاسو الباريسي تتوارد إليه اخبار القرية، القرية الاسبانية في بلده الام تقصفها طائرات الالمان، ترِد الاخبار متتابعة عبر اسلاك البرق، يرسم بيكاسو الكورنيكا، الخلفية كلمات مطبوعة من البرقيات... الجنرال النازي ينظر الى ما انجز. هل انت من quot;صنع quot; هذه؟ بيكاسو : لا! انتم من صنعها.. نحتفل نرقص، نرفع الانخاب بلون الدم.. كتبت إلى خليل : لقد تنكر لك الذين بسبب دفاعك عنهم تنكرت لك سلطةٌ غاشمة... الانتهازي اكثر نفعا منك... لا تحاول ان تمايز.. هم مثل غيرهم..السكوت من الرضا.

البساتين التي هاجت عليها الطناطل شكلت غابةً مترامية، اسيجتها من الطوف الذي علاه العوسجُ، كثيرا ما كتب عنها، كثيرا ما رسمت ممراتها الظليلة، عَلَت قممَ أشجارِها و نخيلَها أنواعُ الطيورِ و سكنتِ اشتباكاتِ الغصونِ فيها الأفاعي و بناتُ آوى، و حين يهرع الناس الى السطوح في أماسي الصيف الطرية، يسمعونها تتنادى عوائاً تباعاً من كل صوب كموجةٍ تتصاعد، تقترب و تنحسر، حين النومُ على السطوح قرّب الناس من السماء يعدون فيها النجوم التي إدّنت كثيرا و يراقبون مسار الشهب الساقطة و هي تخط في السماء الداكنة مسارها اللؤلؤي فيطلقون الاماني، فيما طافت اليراعات المضيئات سابحاتٍ في السماء الدنيا. نحبسها تحت اللحاف فتضئ ثم تنطفئ، حين تنطفئ تموت.
(يكتب عامر على صفحته في الفيس بوك : الرصاص يحاصرنا من كل الجهات لا ندري من هم و ماذا يبغون.. دارنا يحتمي بها اناس من جلدتي)
سمية : quot;اللهم أحرق بيوتهم و شتت شملهم و أحرق قلوبهم مثلما حرقوا قلوبنا و ارنا فيهم يوما يا ربquot;.
quot;اللهم لي عائلةٌ تغنيني عن الكون بأكملة فأرجوك يارب لا ترني فيهم بأسا يبكينيquot;
الناس يتركون ديارهم، عشرون الفا او يزيد غادروا البلدة..

بيت يامين هذا الذي جلس عمار على عتبته كانت بيتا لليهود، سكنته ارواحهم اللائبة و أحتفظ باسمه بالرغم من أن مالكه يامين قد رُحّل منذ الأربعينات قسرا، ولكن صدى الماضي ظل عالقا به. كان مبنيا بالطابوق النادر حينها، مدخله بابٌ خشبي مزخرف تُمّهد له تقويساتُ الطابوقِ الدال على الباب، الدالِّ على الرفاهية. ألقى بغموضه علينا وعزز فينا الرهبة، أن تُروى من على عتبته كما المنبر، قصص الجن التي أثارت فينا القشعريرة، في ذلك الظلام الشامل الذي عجز عن قهره الضوء الكابي للفانوس النفطي المثبت على الجدار في أول الشارع.
رحلوا اليهود الطيبين قسرا من بهرز و حزنت امي كثيرا...

الكهرباء حلت، المذياع ينقل الأخبار، أخبار، اخبار!.... حميد! : اصح، أصح، حميد، انقلاب، انقلاب!... اخبار، اخبار، اخبار.... صباح الخير يا لوله و اخبار الدم
شردونا، بقينا مطاردين... رحل و لم يرحل القمع، quot; نتعاهد! اذا عاش احد منا أن يكتب مذكراته و يذكر الآخر.... انا و انت نعيش بسبب خطأ تكنيكي من السلطة quot;

صاحبتِ الفوانيسُ الناسَ الى البساتين، أُحكم صنعُها لكي لا يطفئ جذوتَها الهواءُ فغلفت بالزجاج المؤطر بالصفيح، أما في (الدرابين) فثمة فوانيسٌ معلقة بثبات على الجدران العتيقة. اطوّفَ عليها (نجف) مستخدمُ البلدية عشاءً بدراجته الهوائية حاملا سلماً وإبريقا مملوءا نفطا وخرقة من قماش، فملأ الفوانيس نفطاً ونظف بالخرقة زجاجها و أوقد منها الفتيل، حتى إذا ما نفذ النفط في العاشرة أو نحو ذلك عمّ الظلام الا في الليالي المقمرة، في هذا الوقت تكون كل القرية تقريبا قد نامت لكي تستيقظ في الصباح الباكر كشخص واحد وتفطر كشخص واحد، فلا أحد بعد العاشرة مساءً بحاجة الى ضوء الشوارع الكابي الا العسس الذين لم تكن لديهم في كل الأحوال مهمات كثيرة، فالقرية لم تكن لتسرق نفسها، كان المجتمع الابوي متحققاً هنا بصفاء بلوري.
(كم هو ممل، أن نعيش بهدوء!)
حطموا ابواب المنازل، سرقوا كل شيء، الحلي و المصوغات... الرعب انسى الناس كل شيء الا حياتهم،... سلامات عامر، نحمد الله على السلامة.. لقد اطلقوا النار على الخزانة الحديدية و فتحوها... كانت فارغة.. نجوت بالكاد بجلدي.... اجرر قدمي في الطريق مساء الى حيث لا ادري و الرصاص يلاحقني... لا زلت مرعوبا يا ابن عمتي.. اليوم فقط تمالكت نفسي و كتبت اليك..
تزوجت فاطمة و غادرت الى بغداد، شعر بحزن غامض. كانت متبناة من العائلة، من خمس عوانس و امهن سكنوا البيت فباتت سابعتهم. نهدت توا، بخجل و بذراعين متصالبتين و هروب حيي تسترت على بروزين لدنين دفعا الرداء الشفيف. لكن عيون الصبية التي حدست ماجرى اخترقت تصالب الذراعين الى حيث يهفو القلب.

(لا تعودي بهيجة، انتظري و تريثي، كيف لا اعود؟ البيت لا يترك، بيتنا فارغ وحيد... البيت لا يترك؟ ماذا من الممكن ان يحصل له؟.. ان يحترق... ان تحترق شجرة التين... ماذا بوسعك ان تفعلي اذا احترقت، تطفئيها؟.. اطفؤها نعم، لماذا لا!).

لم يكن انجذابا اليها، انما تعلق بكل ما أثث ذاكرته بحميمية جعلته موضع هُزئ اصحابه الذين عابوا عليه تعلقه المرضي بالاشياء، شعر أنها جزءٌ من ملامح شاملة ادمَنَ عليها، ملامح سوف تشده الى القاع كلما حاول التآلف مع ما هو quot; جديد quot;، ستجعله ينصرف عن كل ما اقتحم حياته و حطم بدون رحمة ما احب. سَكَنَه هاجسٌ، أن القادم سيءٌ و الحاضر جميل و أن الجميل يذهب هباءً كغبار الطلع بدده الهواء، أن كل يوم قادم يحمل نُذُرا بالويل و كل يوم انصرم خسارة، أراد لعقارب الساعة أن تتوقف، حَدسُه الصائب سمم عليه حياته قبل مستقبله، قبل حلول الواقعة، في حين عاش اقرانه باسترخاء حتى حلولها و حين حلت فكت عنه امعانه في لوم نفسه بأنه كان متطيرا فزعا فوجد انه استشرف الاشياء، لكن الثمن كان باهضا و دمويا و فضل لو ان حدسه لم يصدق و أن يخذل نفسه و يعذبها على ان يرى ما حل من خراب.

(منير، هل تسمعني؟؟! اغتصبوا بنتين اثنتين وسط عويل الام و توسلات الاب، قاوم الاب، اطلقوا عليه الرصاص).

(حداد! اللهم ارحم شهدائنا! لا حول و لا قوة الا بالله، لم يبق أحد ليدفن الموتى، سيارات ذات دفع رباعي، قذائف، صحوات، سوات، داعش، عصائب، بيوت محروقة، سقوف مخترقة و سيارات اخترقها الرصاص... احترقت صفحات الفيس بوك.)

راعه أن يرى شجرة زهر القهوة و قد اقصيت، و تطايرت من جذعها شظايا الخشب الطري ذي الذهب، كانت كعروس مجللة بالوردي انهارت ليلة زفافها. الجدران المحيطة بالبساتين بنيت بصفوف متعاقبة من الطين المقوى بالقش، راقب فيها آثار الريح و المطر، شقت فيه أخاديد و حفرا و تركت ثقوبا ظللها البنفسجي، تخلت بلونها الوردي المشمس استسلمت للجرافات فتحولت الى غبار تذروه الرياح، تتبع السواقي بماءها الرقراق، و انتبه لحافات الضوء الوردية و قد استلقت على الارض برشاقة مارة خلل اوراق الشجر، الفراشات الملونة، اليراعات المضيئة، اللقالق و طيور الشقراق.

الجرافات نزلت الآن تجرف البساتين لم يبقوا على سياج، ماذا سترسم بعد، لم يعتبروا حرمة لشجرة محملة بالبرتقال المتلألأ، قتلوها و اولادها... البساتين مزقتها القذائف، مات النخل واقفا بدون رؤوس كحشد من الطناطل، زالت بساتين البرتقال و حارت الطيور تبحث عن مأوى... اغتصبوا شجرة ورد القهوة... اغتصبوها ليلة عرسها...

في هذا الجو الذي ذهب بدون رجعة، في هذا الجو المشحون بالخرافة و السعالي والضوء الكابي وبيت يامين المسكون من خمس عوانس وأمهن التي جاوزت المائة وأرواح الذين رحّلوا قسرا، وورّثوا أجيالا أعقبتهم، الحنين الى ملاعب الصبا، يروي عمار علاقة أبيه الوثيقة مع الجن، والتي صنعها الخوف والمجهول والظلام، في تلك اللحظة إقتربت فاطمة الناهدة تواً اليتيمة المتبناة من قبل العوانس الخمس من سياج السطح الذي يطل علينا لكي تأخذ جرة الماء المصنوعة من الفخار والتي كانت توضع على أسيجة المنازل يبردها نسيم الاماسي الصيفية، مع ذروة الحكاية التي بلغ فيها عمار : quot; كيف أن أباه رمى الفانوس النفطي الذي كان بيده الى الاعلى بأتجاه العفريت التي كانت قامته تتجاوز النخيل بعد أن قطع العفريت الطريق عليه فاشتعلت في العفريت نارٌ طالت عنان السماءquot;.
ولكن الجرة التي أخطأتها اليد المتصلة بالصدر الناهد توا والتي أربكها الوجود الفيزياوي القريب لكتله من الذكور، هوت لتسقط قرب الصبية المتحلقين محدثة دويا، فتشتتوا في كل الاتجاهات مرعوبين، كان الدوي المكتوم الذي أحدثه إرتطام الجرة المملوءة ماءً قد أشعرهم وكأن الأرض اهتزت و أن العفريت الذي أهانته الشماته كان كامنا في باطن الأرض تحتهم قد ارتعد غاضبا.

هرب سكان البلدة في كل اتجاه، كثيرون قتلوا في طريق الهرب... منير! هل تسمعني؟ منير : نعم هلو، انه مريع!! انهم يكذبون لا وجود لداعش انهم قوات الحكومة، كل القتلى اولادنا ابرياء... اطلقوا النار من كواتم على خمسة في سيارتهم، عادوا بعد ان نداء بـ quot;تحريرquot; البلدة يدعوهم للعودة.... عادوا فأطلقت عليهم الميليشيات النار.
(مزقت قذيفة سكون الهواء و انفجرت في السوق و تعالت اصوات الاستغاثات)
العفريت الذي استهزئنا به عاد لينتقم..
(يخرج الناس مجرجرين اقدامهم، قذيفة تسقط على الحشد الذي هج فتقتل امرأة.... مُنعت السيارات من حمل الناس، فيما سيارات الدفع الرباعي تخرج محملة بالغنائم)