بغداد الشعر والنثر والجمال الغائب (2)

في وسط بغداد من جهة الباب الشرقيّ لدار السلام وفي شارع ضيّق نسبيا يؤدي الى ساحة الطيران تقبع سينما غرناطة بصرحها العتيد وتصميمها المعماري الإيطالي، والتي كانت مقصد المثقفين والباحثين عن افلام راقيّة ثريّة في مضامينها وأسلوب إخراجها وحركات ممثليها ومرفأً للاستجمام المريح للحصول على المتعة والفائدة واشباع حاجات الانسان الروحية من خلال الفن
ومع ان بغداد تحفل بالعديد من دور السينما التي تخطت الاربعين دارا ولايكاد حيّ من احيائها او شارع من شوارعها يخلو من صالة سينمائية واحدة على الاقل، لكن سينما غرناطة تميزت عن غيرها بأنها مهوى النخبة الثقافية الراقية والتي كانت تبحث عن افلام ورقوق سينمائية جديدة ومتميزة تثري عقولنا وتصقل ارواحنا جمالا وتذكّرنا بغرناطة الاندلس وتأريخها الخالد وعلمها الجليل وزهرها الرطيب وشجرها الوارف الذي تخطّى الآفاق حتى وصل هنا الى بغداد احد اغصانها المثقلة بالثمر اليانع الشهي متمثِّلاً بسينما غرناطة
كان روّاد السينما وخاصة المثقفون منهم يترقبون يوم الاثنين من كل اسبوع للإطلاع على آخر الافلام التي سيتمّ عرضها وكنا نشدّ الرحال الى غرناطة في ذلك اليوم دون ان نعرف ماذا سيعرض لأننا موقنون ان جديدا رائعا من تلك الافلام سوف يتم عرضه ومن النادر جدا ، بل ومن المستحيل ان نفاجأ بأفلام ليست على مستوى عالٍ طالما ان غرناطة سوف تعرضه ضمن حفلاتها الصباحية والمسائية
كنا عادة مانختار الحفلة الاخيرة بعرضها المسائي الذي يبدأ الساعة التاسعة والنصف بعدها يتم غلق السينما حتى اليوم التالي لاننا طوال فترة النهار جالسون على مقاعد الدراسة وبعد انتهاء المحاضرات نلتقي وزملاءنا قاصدين المكتبة المركزية الواقعة خلف كلية الآداب حيث ادرس واعدّ البحوث التي كلفنا بها مع رفاقي وصحبي ثم ننتقل بعدها الى ايّ غاليري مفتوح او ندوة ثقافية او قاعة الفن الحديث وما كان اكثرها ايام السبعينات ونقف مبهورين امام ابداع فنانينا الرواد ومابعد الرواد او نستمع الى محاضرات من عقول فذة تمرست على العلم والادب الرصينين في مبنى اتحاد الادباء او قاعة الحصري بكلية الآداب وقد تكون محطتنا الاخيرة قاعة الفن الحديث القريبة من غرناطة ثم نعطف يسارا لمشاهدة اخر عروضها
ورغم خلو جيوبنا الاّ من القليل لكننا ندّخر ما بوسعنا من مال لإشباع حاجتنا الروحية ومشاهدة اجمل عروض الفن السابع حتى اننا ننسى ملء بطوننا . وان كان ولابدّ من سدّ الرمق فاننا نكتفي بساندويجة صغيرة زهيدة الثمن من البيض والمخللات الهندية من بائع متجول يقف امام باب السينما
سينما غرناطة التي كنا نسميها quot; ياقوتة صالات الفن السابعquot; تأسست في اوائل الأربعينات وسميت اول الامر سينما دار السلام تيمّنا بعاصمتنا بغداد التي نعَتها اهلنا ومحبوها بهذا الاسم، وفي مطلع الستينات تغير اسمها فسميت quot;سينما ريوquot; وفي سنة /1971 استقر مالكها الجديد على تسميتها غرناطة حبّا بالأندلس وحضارته الزاهية العريقة وكأنها صورة بهيّة خلاّبة من صور غرناطة الاندلس
وقد عمل مالكوها على تأثيثها من أرقى الاثاث الايطالي والاميركي الفاخر لتكون في غاية التميّز عن بقية الصالات لكونها كانت مقصد العوائل العراقية العريقة ومهوى النخبة البغدادية المثقفة اضافة الى تصميم بنائها وسعة مساحتها وأجنحتها ومقصوراتها الفارهة ذات الطراز الايطالي الملفت للنظر، ولا ننسى التنظيم في عمليات الدخول والخروج واختيار المقاعد وفق الارقام في جميع اقسامها وكثرة الادلّاء الذين يشيرون الى مقعدك المخصص بكل يسرٍ وسهولة
ولازال يرنّ في مسامعي ذلك الجرَس الجميل الذي يؤذن ببدء الفيلم وفي اوقات الاستراحة، والذي كان يشبه تماما صوت قرع الاجراس في الكنائس
وقد لمع نجمها وتألقت وصارت هدفا للزوار والباحثين عن المتعة الفنية الراقية حين عرض فيها الفيلم الشهير quot; مدافع نافارون quot; عام/1962 والتي مثّلته الممثلة اليونانية الشهيرة ايرين باباس الى جانب غريغوري بيك ثمّ اتجهت بعد ذلك الى عرض احدث النتاجات السينمائية الفرنسية التي كانت تؤخذ مضامينها من روايات عمالقة كتّاب الرواية الفرنسيين امثال فيكتور هوجو وبلزاك وموباسان واندريه مالرو وغيرهم ، كما تعرّفنا على احدث الوجوه التمثيلية البارعة مثل آلان ديلون ولي فنتورا وكاترين دينوف وسيمون سينوريه ومارلين جوبيت وايف مونتان ولم انسَ ابدا حركات ورقصات انطوني كوين على انغام السانتوري في فيلم quot; زوربا quot; للموسيقار اليوناني ميكيس ثيودوراكيس عن قصة الكاتب اليوناني نيقوس كازنتزاكي والذي تمّ عرضه اوائل السبعينات في غرناطة ، لكن فيلم quot; الاخوة كارامازوف quot; المأخوذ من رواية فيودور ديستويفسكي قد احدث شرَخا في ذاكرتنا لايمكن ان يمحى ابدا يوم عُرِض في غرناطة ايضا وكان دليلنا ومفتاحنا للولوج الى عالم الرواية الروسية ومنها تعرّفنا الى عمالقة الادب الروسي الاوائل ( ليو تولستوي وبوشكين وغوغول وتورجينيف ويليه غوركي وماياكوفسكي وغيرهم) لكننا لم نكن نعبأ بالادب السوفياتي ولا السينما السوفياتية مثلما كان الادب والفن الروسي والكتّاب والشعراء الروس شغلنا الشاغل على الرغم من اننا كنا مشبعين بالفكر الماركسي والمفاهيم الاشتراكية ، يومها كان المركز الثقافي السوفياتي يقدّم عروضه ببغداد مجانا ولم نكن نزوره الاّ لماما لشعورنا بضآلة ابداع الافلام المأخوذة من روايات مابعد الثورة البلشفية امام الرقوق السينمائية الاخرى والعروض الجديدة التي تقدمها صالات السينما ببغداد وبالاخص سينما غرناطة لروّادها اذ كانت اغلب الروايات الروسية يتمّ انتاجها في استوديوهات هوليوود الاميركية وفي بلدان اوروبا الغربية والتي كان بريقها اكثر لمعانا مما كان ينتجه الاتحاد السوفياتي السابق
ومن الطرائف الغريبة والجميلة معا والتي لايمكن نسيانها ماحييت ؛ اننا طلبة الآداب كنّا نحْضر احدى المحاضرات وكانت المحاضرة تتحدث عن فصل من كتاب quot; منهج البحث الادبي quot; للدكتور الناقد الالمعي علي جواد الطاهر فأشار ضمن كلامه الى ضرورة أخذ قسط من الراحة كأنْ تذهب الى المسرح او السينما في حالة الارهاق اثناء جمع المعلومات عن بحثك ، وصادف في امسية ذلك اليوم ان قصدتُ سينما غرناطة واذا بأستاذي الطاهر والسيدة حرمه كانا ضمن روّاد السينما وحييتهُ بتحية المساء فردّ عليّ مرحبا لكنه استرسل قائلا لي :
--ما الذي جاء بك الى السينما وأمامك بحث لم تكملْه ؟؟
فأجبته ضاحكا :
--أنت استاذي العزيز نصحتنا اليوم في درسك بترك بحثك لو كنت في حالة اعياء او ارهاق وعليك الذهاب الى المسرح او السينما لطلب الراحة والاستجمام بفيلم او عرض مسرحي وها انا امتثل لوصاياك .
ابتسم لي وربَتَ على كتفي مازحا وهو يقول :
--خيرا فعلت بُنَيَّ المجتهد وودّعني متمنيا لي مشاهدة ممتعة وليلة سعيدة
هذه الصالة العريقة مازالت قائمة في مكانها لكن لااحد يزورها سوى نفر قليل من الناس لايتعدى بضع عشرات من الروّاد الهاربين من القرّ والصرّ وممن يرتجي المأوى والراحة لبعض الوقت وربما من محبّي هذه السينما الاوائل لكي يقف على اطلالها ويبكي ماضيها الذي كان يوما ما متألقا زاهيا عسى ان يعيد شيئا من ذكرياته حين كانت مرتعا للفن والجمال الهارب . اما القائمون عليها فهم يشكون من زوال ذلك البريق الهائل الذي كان يزيّن طلعتها فقد عمّ الخراب شارعها الجميل واكتظ باعة الخردة والملابس والأحذية الرخيصة وزحفوا على رصيفها ، اضافة الى طفح المجاري القريبة منها وتراكم النفايات ومخلفات الباعة امامها ، كل تلك المناظر البائسة تبعث على الأسى لما آل اليه حال هذه الماسة الرائعة الجمال وكأنها وضعت بيد فحّام . اما امانة بغداد فالحديث معها يطول فما زالت تغمض بصرها عن الحال المزري الذي تعانيه رغم المناشدات الكثيرة من قبل القائمين عليها لاجل اصلاح مايمكن اصلاحه ويبدو انها لاتعي اهمية الحفاظ على مثل تلك الامكنة الخالدة في ذاكرة العراقيين ، لكنها تصرّ على فرض ضريبة الملاهي من ايرادات السينما الشحيحة اصلا ناهيك عن انقطاع الماء والكهرباء لساعات طويلة حالها حال المرافق العامة الاخرى وعدم توفر الوقود اللازم لتشغيل اجهزة السينما
نعجب لماذا تهمل هذه الامكنة الجميلة بهذا الشكل ؟؟ أليس حريا بنا ان نعيد شيئا من التألق والسحر لهذه الصروح الثقافية الفنية فما ضرّ لو امتلكت وزارة الثقافة تلك المعالم الجميلة بغية اعادة تأهيلها وجعلها مزارا ثقافيا او متحفا فنيا بالتعاون مع دائرة السينما والمسرح وان تتبنى امانة العاصمة تجديد ماتقادم منها وتوفير احتياجاتها وإعادة شيء من الالق السالف لتكون محجّا ومقصدا للباحثين عن مواطن الجمال لبغداد الازل
لا ادري لماذا يتقصدون تخريب مثل هذه الامكنة الزاهية والمعالم الجميلة العالقة في ذاكرتنا الجمعية ويبقونها اطلالا يبكي عليها محبوها !! ويبدو انهم يتعمدون إفساد كل ماهو بهيج وهدم كل ماهو عامر وطمس معالم عاصمتنا البهيّة وتضييع التراث الفني وتهميش الوعي واضاعة الذكريات العذبة وتخريبها في مخيلتنا ويبدو انهم لايكتفون بهدم معالمنا الثقافية القديمة الثريّة برقيّها الفني وتشويه اضرحتنا الفنيّة النجيبة مثلما عمدوا ويعمدون الان على تعتيم طرق مستقبلنا ووضع العثرات والمطبّات في خطانا المقبلة
للموضوع صلة

[email protected]